دولة قبرص الاتحادية.. أمل منتظر

TT

كانت الأراضي العثمانية موطنا للكثير من المجموعات الإثنية المختلفة على مدى 600 سنة، التقت فيها الشعوب العربية والفارسية في الشرق الأوسط، والقوقازية في الشمال، ودول البلقان في الغرب، في دولة واحدة. ومع انهيار الإمبراطورية العثمانية، بدأت الأرض والهوية والجذور العرقية في التداعي هي الأخرى. وكانت الانقسامات تعني دائما صعوبة، خاصة إذا منحت السيطرة على المناطق المنقسمة للأجانب.

بيد أن جانبا من هذه الشعوب كانوا أتراكا بالفعل، إنهم القبارصة، الذين يتقاسمون نفس الأرض مع اليونانيين، وعاشوا معا كدولتين ودينين منفصلين، لكنهما ظلا يشكلان جسدا واحدا حتى انقسام الدولة العثمانية التي حافظت على هذا الجسد وحدة واحدة.

وفر انهيار الإمبراطورية العثمانية بدائل مثل الاستقلال والانتداب لعدد من الدول، لكن الانقسام كان يعني بالنسبة للقبارصة الأتراك التخلي عن دولتهم، ومن ثم لم تكن العواقب سهلة بالنسبة لهم ولا على اليونانيين في قبرص.

في البداية خضعت الجزيرة للحكم البريطاني، ثم تلا ذلك حرب أهلية دامية، أعقبها استيلاء الجيش التركي على الجزيرة عام 1974 الذي ظل على الدوام مثار انتقادات لأولئك الذين تلقوا معلومات مغلوطة بشأن القضية. بيد أن هؤلاء الأفراد تناسوا أن العملية استهدفت انقلاب الجيش اليوناني ضد الجانب اليوناني من الجزيرة. وكانت تركيا هي من أخذ زمام المبادرة لمد يد العون، في الوقت الذي كان فيه قادة الجيش المؤيدون للانضمام إلى اليونان يسفكون دماء داعمي الرئيس اليوناني ماكاريوس.

لأجل هذه الأسباب ظلت قبرص على الدوام قضية حساسة بالنسبة لتركيا، فيما كانت تركيا قضية حساسة بالنسبة للقبارصة الأتراك. وربما كان ذلك هو السبب في التدخل الدائم لتركيا في المحادثات الخاصة بالجزيرة، وحضور القبارصة على الدوام في محادثات تركيا مع الاتحاد الأوروبي.

عادت محادثات قبرص إلى الانطلاق خلال الأسابيع الأخيرة بعد توقف طويل، وأظهر الجانبان إيجابية واعتدالا، فقد نال كلا الجانبين ما ناله من آثار الانقسام. ولم يتمكن الجانبان من التغلب على العقبات التي فرضتها السياسة على الأرض التي عاشوا عليها أشقاء، لكن هذه المحادثات ربما تشكل نقطة انطلاق جديدة.

الهدف الرئيس للمحادثات هو اتحاد شطري الجزيرة والمنطقة بحيث يتمتع كل منهما بمكانة مستقلة. والشرط الأساسي هو أن تكون الدولة الاتحادية ذات سيادة واحدة كدولة عضو لدى الأمم المتحدة، في الوقت الذي يتمتع فيه كل من القبارصة الأتراك واليونانيين بحقوق سيادة متساوية.

لن يجري اتخاذ أي خطوات من شأنها وقوع أحد الجانبين تحت هيمنة الآخر. سيكون للدولتين اللتين سيجري تأسيسهما برلمانان ونظامان قضائيان.

كان الجانب اليوناني قد صوت في السابق ضد تحالف مشابه، لكن الأوضاع باتت مختلفة في الوقت الراهن. فالجانب اليوناني من قبرص يعد من الدول التي كانت أكثر تأثرا بالأزمة الاقتصادية التي بدأت في عام 2007 وبلغت ذروتها في خطة الإنقاذ التي قدمها الاتحاد الأوروبي. فاحتياطيات الغاز والنفط الضخمة الموجودة في شرق البحر الأبيض المتوسط، تجعل من التحالف مع الجانب التركي أمرا حيويا. وهناك أيضا مشكلة المياه، الأثمن من الغاز على الجزيرة، فبموجب الاتفاقية الجديدة سيصل شمال قبرص 74 مليون متر مكعب من المياه سنويا. وهو ما يزيد على ضعفين إلى ثلاثة أضعاف ما يحتاجه شمال قبرص، ورغم حاجة اليونانيين إلى هذه المياه، فإن مثل هذا التحالف سيسمح لليونانيين بالحصول على احتياجاتهم من المياه من الجانب التركي.

وقد وضع الجانب التركي، الذي قضى سنوات في ظل العقوبات كدولة غير معترف بها، عددا من الخطوط الحمراء. وقد أوضح سيبل سيبر رئيس البرلمان القبرصي التركي بالقول: «لن نتخلى عن تركيا كضامن، فمن الأهمية بمكان أن نظل إقليمين، واستقلالنا الذاتي مهم. وينبغي أن تكون رئاسة الاتحاد بالتناوب بين الأتراك واليونانيين».

هذه أيضا خطوط حمراء بالنسبة لتركيا، فلم تناقش حكومة في تركيا على مدى السنوات الخمس والخمسين الماضية تقديم تنازلات بشأن أي من تلك القضايا.

أحد التطورات الإيجابية أن الخطوة السياسية التي جرى الاتفاق عليها عند بدء المحادثات بدأت تتحقق على أرض الواقع قبل بضع سنوات، عندما عقد مفاوض جمهورية شمال قبرص التركية محادثات في أثينا مع ممثل القبارصة اليونانيين، وقد عقدت الجولة الثانية في أنقرة. وكانت تلك هي الزيارة الرسمية الأولى التي يقوم بها مسؤول من اليونان إلى تركيا أو مسؤول تركي إلى اليونان.

سيكون التوصل إلى حل طويل الأجل وفاعل للقضية التركية عملا بالغ الأهمية من الناحية المادية والاستراتيجية والثقافية. ولذا، طالما لم يزعم أي من الجانبين السيادة على الآخر، سيتمكن هذان المجتمعان من وضع الأخوة التي حافظوا عليها على مدى سنوات على صعيد التفاعل الاجتماعي عبر تدابير سياسية. وستظل الوحدة والتحالف أمرا جيدا على الدوام، طالما لم تجر تسوية مسألة الاستقلال.

إن اليونانيين أشخاص رائعون، فتركيا تتقاسم مع اليونانيين في قبرص واليونان نفس الثقافة، وقيم الولاء والصداقة والذوق. إن رابط الوئام بيننا قوي لكن الاختلافات السابقة طمست ذلك الرابط. فالجنوب والغرب يرحبان باليونانيين في الصيف، وجانبهم الشرقي يرحب بالأتراك. ناهيك عن أن عددا كبيرا من سكاننا يعودون إلى أصول يونانية. وكجزء من تلك الأخوة، كانت تركيا واحدة من أولى الدول التي تقدم المساعدة لليونان في أزمتها الاقتصادية، قبل أن يقدم صندوق النقد الدولي والأمم المتحدة أي عروض للمساعدة. هذا هو ما ينبغي أن يكون عليه الوضع وما تتطلبه الأخوة.

قد تؤثر الصراعات على الهيمنة السياسية على الأخوة، لذا لا ينبغي السماح لمثل هذا الصراع على قبرص. هذا الشغف بالهيمنة السياسية ينبغي ألا يؤثر بالسلب على هذا المجتمع الراقي، الذي تعايش لفترة طويلة رغم الاختلافات الدينية والهويات الإثنية. الأسباب السياسية والاقتصادية التي ستجبر كلا الجانبين على التوصل إلى اتفاقات واضحة للعيان، لكن مبدأ الوحدة ينبغي أن يقوم على الوئام والصداقة والاحترام المتبادل.