دروس للقيادة في بلادنا

TT

كانت الصدفة وحدها هي التي جعلتني أقرأ مقال توماس فريدمان في الـ«نيويورك تايمز» عن القيادة في شركة «غوغل» الشهيرة، في الوقت ذاته الذي كانت تجري فيه عملية التغيير الوزاري في مصر. الفارق كبير بالطبع بين أميركا ومصر، وأكبر بين قيادة شركة وقيادة دولة، وهناك فوارق أخرى لا تعد ولا تحصى، فيها ما هو ملموس ومحسوس، وفيها ما هو قيمي ومعنوي وحتى ما هو رمزي.

ومع ذلك فإن هناك ما يمكن تعلمه، خاصة أنه تبدو لدينا ليس فقط في مصر، ولكن في معظم البلدان العربية، أزمة في القيادات. هنا، وحتى تكون الأمور واضحة، لا نتحدث عن قيادة الدولة ولا النخبة الاستراتيجية فيها، وإنما نتحدث عن قيادة شركات ومحافظات وأقاليم ومشروعات، وربما أيضا وزراء في وزارات «غير استراتيجية». وأذكر أن أحد البارزين من الإصلاحيين في الحزب الوطني الديمقراطي في مصر طرح أن البلاد تحتاج إلى خمسة آلاف قيادة على المستوى الدولي حتى تنطلق الدولة وتقف في صفوف الدول المتقدمة. طرح ذلك في بلد تجاوز عدد سكانه الثمانين مليونا في ذلك الوقت، وفي لحظة بدا فيها أن اختيار القيادات يمثل معضلة عظمى من المعضلات التي ليس لها حل.

وذات يوم لخص لي اللواء عمر سليمان، رئيس المخابرات العامة المصرية الراحل، قضيته بأن اختيار القيادات في مصر أشبه باختيار «بطيخة» من السوق لا تعرف أبدا عما إذا كانت سوف تكون «حمراء حلوة المذاق» أو «بيضاء» ليس لها طعم. لم أعلق يومها على هذا الموضوع الحساس، فقد كان الشائع في اختيار القيادة أن تكون من أهل «الثقة» لضمان الولاء، أما أهل الخبرة، ولأنهم كذلك، فلا بد من مرورهم في مصفاة تضمن أنهم من الثقات. وفي الواقع العملي ثبت أن المسألة ليست كذلك، فقد أصبحت «الأقدمية» تلعب دورا مهما، و«الشللية» تلعب دورا لا يقل أهمية، وفي بعض الأحيان كان الانتماء لنفس القرية مطروحا، وفي بعض التخصصات كان أصحاب المهنة يقدمون القيادات، فوزراء الخارجية عادة ما يكونون من السلك الدبلوماسي، والري من مهندسي الري، والعدل من القضاة والمستشارين، وهكذا. كان الظن دائما أن أهل مكة أدرى بشعابها، ولكن ذلك لم يكن دائما صحيحا، وفي وقت من الأوقات جرى الترويج للأوائل في الجامعات بحيث يجري تعيينهم قرب المناصب القيادية حتى يتولوا بعد ذلك القيادة.

في مقال فريدمان معلومة مهمة، أن 14 في المائة من القيادات في شركة «غوغل» ليست لديهم شهادة جامعية، وربما لا يكون ذلك مدهشا إذا علمنا أن بيل غيتس مؤسس وقائد شركة «مايكروسوفت» وأحد أغنياء العالم، لم يقض في الجامعة أكثر من عامين، أما ستيفن جوبز مؤسس شركة «أبل» فلم ينتظر في الجامعة لأكثر من سبعة شهور. ليس هذا دعوة لتجاهل التعليم بالطبع، ولا حتى نتائج ودرجات التعليم الجامعي، لكن هناك في القيادة ما هو أكثر، لأن مهمتها ليست إدارة تنظيم ما وإبقاءه على حاله، وإنما الأخذ به إلى آفاق لم يصل لها أحد من قبل سواء من حيث الثروة أو الشهرة أو التأثير أو المكانة أو القوة. القيادة هي أن تكون مقتنعا تماما بأنه لا ينبغي أن يبقي الحال على حاله، وفي سبيل ذلك لا بد أن يكون لديك التركيب العقلي الذي يجعلك من القوة بحيث تقود الآخرين لتحقيق هدف أو أهداف بعينها، ويكون لديك في الوقت نفسه من التواضع الكافي للاستماع إلى الآخرين، خاصة الذين لديهم آراء مختلفة، والشجاعة إذا ما كنت مرؤوسا لكي تطرح رأيك بقوة. الصفات القيادية هي مركب من الخيال والإصرار والقوة والتواضع والشجاعة، وهذه لا تأتي دائما من التعليم الرسمي.

هذه مدرسة على أي حال، لكن المؤكد أن لدينا مشكلة عظمى. فنحن من ناحية لا نربي في أولادنا فكرة القيادة، اللهم إلا إذا كان الأولاد من جماعة قائدة بحكم الميراث، وهنا لا يكون تدريبا على القيادة، بقدر ما يكون على ممارسة السلطة. وسواء كان الأمر هنا أو هناك فإننا نشجع الاتجاه فيما توارثنا عليه أو نعرفه كاتجاه عام، عندما نكون في عصر الاستقرار والإصلاح الطويل المدى، أما في عهد ما بعد الثورات العربية فإن الكارثة محققة، خاصة في بلد معقد ومركب مثل مصر. وما عليك إلا أن تراقب التشكيل الوزاري المصري الأخير – وآمل أن تكون الوزارة قد تشكلت ساعة نشر هذا المقال - حتى تدرك أمورا مهمة، منها أن المفاجأة ضرورية في إنهاء زمن قيادات سابقة وإحلال قيادات محلها. وهذه القيادات ليست جديدة تماما، فالمهندس إبراهيم محلب كان وزيرا في الوزارة السابقة، وحسب تعبيره فإنه جاء لاستكمال ما بدأته، لكنه أضاف أنه سوف يشكل وزارة من «المقاتلين»، وهي صفة ربما لم تكن شائعة في الوزارة السابقة.

كان ذلك مبشرا إلى حد كبير، فالقتال واحد من الصفات القيادية المهمة للتعامل مع دولة تعددت مشكلاتها مثل مصر، والرجل له تاريخ يشهد له بالكفاءة والقدرة والفاعلية. لكن الأمر لم ينته عند هذه النقطة، فقد حمل الرجل إلى وزارته من ناحية أغلبية مجلس الوزراء الذي استقال توا، ومن ناحية أخرى ضاع أول إصلاحاته القائمة على دمج الوزارات في ضباب ودخان العاملين في الوزارات التي سيتم دمجها، والذين خرجوا في حالة احتجاج إضافية. وببساطة فإن عصر الثورات يريد الثورة، لكنه يرفض التغيير، وظهر ذلك عندما بدأت عملية اختيار الوزراء، فلأول مرة في التاريخ المصري أصبح ضروريا أن يحصل رئيس الوزراء على موافقة أهل الوزارة نفسها، والذين يريدون دوما أن يكون الوزير من بين الصفوف، فإذا ما كان يبدأ الانقسام حول من هو الأحق بالمنصب الرفيع.

لا شيء هناك حول الهدف، ولا الآفاق المراد الوصول إليها، ولا حتى نظرة على سجل الإنجاز الموجود في الوزارة أو الهيئة أو الشركة. لكن هناك دائما قدرة على الخروج عن الموضوع، فهناك دائما اتهامان جاهزان: أولهما أن شخصا ما ينتمي إلى النظام القديم (هناك في مصر الآن نظامان قديمان، مبارك ومرسي)؛ وثانيهما أنه ينتمي إلى جماعة رجال الأعمال والاستثمار وليس للجماعة الوحيدة العارفة بمصالح الأمة وهي البيروقراطية. المؤكد أن المهندس إبراهيم محلب سوف يبذل جهدا غير عادي في القتال من أجل تحقيق أهداف نبيلة، لكن الأدوات والقيادات التي سوف تنفذ ذلك سوف تكون قاصرة. كل ذلك لن يكون عيبا في التشكيل الوزاري، وإنما لأننا لم نعرف بعد معنى القيادة ودورها.