هذا هو الرد وإلا فإن «المتوسط» سيصبح بحيرة روسية!

TT

إذا كانت خطوة روسيا الاتحادية قد فاجأت بعض المتفرجين الذين لم يدركوا أن تحول موسكو إلى طرف رئيسي في الأزمة السورية وفي «الصراع على سوريا» فإن المفترض أنه لم يفاجئ الولايات المتحدة ولا دول حلف الأطلسي الأخرى، إذ إنه كان واضحا أن الروس الذين تمادوا جدا في الضغط على أطراف أصابع الأميركيين والأوروبيين في الشرق الأوسط، لا يمكن أن يسمحوا لـ«دول المعسكر الغربي بتوجيه اللكمة الدامية التي وجهتها إليهم في أوكرانيا.. الدولة التي يعدونها رقما استراتيجيا في حساباتهم الداخلية والخارجية».

فالرئيس بوتين، والمجموعة التي تشاركه الحكم، وإن على نحو ديكوري هزلي ومضحك، يعرفون تماما أن «لكمة» أوكرانيا ستكون ضربة قاضية لتطلعات استعادة مكانة الاتحاد السوفياتي في المعادلة الدولية، وأن السكوت عنها سيشجع الولايات المتحدة التي أثارت شكوك حلفائها بموقفها المثير للكثير من التساؤلات الذي اتخذته من الأزمة السورية خلال السنوات الثلاث الماضية، بأن توجه لروسيا الاتحادية لكمات مميتة أخرى، إن هي لم تسارع إلى فعل ما كانت فعلته في جورجيا عندما لجأت إلى القوة العسكرية الغاشمة بينما بقي الأميركان يراقبون المشهد بلا حول ولا قوة.

لقد كان من الواضح أن روسيا الاتحادية بقيادة «القيصر» الجديد لا يمكن أن تفرط في مجالها الحيوي القريب وأن تجعل أوكرانيا التي تتحكم بجزء من البحر الأسود الذي كان استراتيجيا وتسبب في حرب القرم الشهيرة في القرن التاسع عشر، والذي لا يزال استراتيجيا بالنسبة لدولة أخذت تسعى بعد نحو ربع قرن من سقوط الاتحاد السوفياتي، وخسارة أوروبا الشرقية لمصلحة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى هجوم معاكس كانت بدأته في سوريا، وقبل ذلك في الشيشان وجورجيا، وحيث حققت نجاحات لا يمكن إلا الاعتراف بها وعدم إنكارها.

وهنا فإنه يبدو من الواضح أن الأميركيين إما أنهم أصبحوا في عهد هذه الإدارة قد استسلموا لتأرجح الولايات المتحدة في معادلة الألفية الثالثة الدولية، أو أنهم لم يدركوا ما تشكله سوريا من مكانة استراتيجية في الشرق الأوسط، ولعل ما يثبت هذا أن الرئيس أوباما قد أظهر خلال الأزمة السورية عدم اكتراث بهذه المنطقة التي بدأ الروس يحرزون تقدما فيها بتحالفهم مع إيران، وبهجومهم المعاكس المستميت في الأزمة السورية التي أصبحت بمثابة صراع إقليمي ودولي لا يمكن أن يكون خافيا إلا على أعمى.

وهنا فإن ما يمكن الاتفاق عليه هو أن روسيا التي حققت كل هذه النجاحات والإنجازات الاستراتيجية في دولة محورية لها تماس جغرافي مفتوح مع تركيا ومع العراق ومع الأردن ومع إسرائيل ومع إيران بعد سقوط بلاد الرافدين في يد الولي الفقيه، إما بسبب «تآمر» الولايات المتحدة أو بسبب سذاجة إدارتها الديمقراطية الحالية وإدارتها الجمهورية السابقة، لا يمكن أن تسكت حتى وإن تسبب هذا في عودة الحرب الباردة والحرب الساخنة معا، بامتداد أيدي دول الاتحاد الأوروبي ويد الولايات المتحدة إلى أوكرانيا التي تشكل آخر قلاعها في مواجهة الأطماع الأوروبية والأطماع الأميركية، ليس في هذه الدولة التي تتحكم بجزء من البحر الأسود فقط، وإنما في الدول الإسلامية المطلة على بحر قزوين التي كانت واشنطن قد عدتها منطقة مصالح حيوية من الدرجة الأولى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مباشرة في بدايات تسعينات القرن الماضي.

ولهذا فإنه غير المتوقع أن يكون تصدي الولايات المتحدة لامتلاك روسيا الاتحادية العسكري لأوكرانيا، التي لم يتردد قادتها الجدد في الاستعانة المبكرة بحلف شمال الأطلسي، إن هي بقيت تحيد أي عمل عسكري في هذه الدولة العامة، على غرار ما فعلته بالنسبة للأزمة السورية وإن اكتفت بمجرد التلويح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالعقوبات «السخيفة» التي كانت استخدمتها ضد بشار الأسد وكانت النتيجة كل هذه المذابح وكل هذه المآسي التي ستبقي أميركا وإدارتها الديمقراطية تتحملان مسؤوليتها الأخلاقية والسياسية أبد الآبدين.

فهل كان يعتقد باراك أوباما يا ترى أن إلغاء اجتماع الثمانية الكبار الـ(G8) في سوتشي الروسية سوف يجعل فلاديمير بوتين يبادر هرولة إلى سحب قواته الغازية من منطقة القرم وإلى إيقاف تدخل روسيا الاتحادية في الشؤون الداخلية الأوكرانية؟ ثم هل يعتقد أنه إذا بادر إلى تجميد حسابات القيصر الروسي في المصارف القبرصية وفي المصارف الغربية والشرقية سوف يجعل هذا الرجل «الحديدي» يرفع يديه عاليا ويستسلم للإرادة الأميركية والإرادة الأوروبية الغربية؟! وحقيقة إذا كان يفكر بهذه الطريقة فإنه علينا في هذه المنطقة أن نرفع شعار: «أبشر بطول سلامة يا مربع».

إن ما جعل الروس يلجأون إلى كل هذا التحدي العسكري والتدخل السافر في الشؤون الأوكرانية هو أن الإدارات الأميركية السابقة قد تخاذلت تخاذلا مخزيا إزاء ما قام به فلاديمير بوتين في دولة الشيشان الإسلامية، وأيضا في «داغستان» المجاورة، وفي كل منطقة القوقاز الاستراتيجية المحاذية لتركيا الدولة العضو الفاعل في حلف شمال الأطلسي وفي جورجيا، وهو أن الإدارة الحالية قد أظهرت «هزالا» سياسيا غير مسبوق، إنْ في العراق وإنْ في سوريا، وإنْ في اليمن، وإنْ في مصر، وإنْ بالنسبة لكل هذا الذي في الكثير من الدول الفاعلة دوليا وإقليميا، وفي مقدمتها باكستان وأفغانستان، التي بدأت تستعد لمرحلة ما بعد رحيل القوات الإيرانية التي قد تشبه مرحلة ما بعد رحيل القوات السوفياتية.

إنه على الشعب الأميركي الذي من المفترض أنه لا يزال يتمسك بالقيم السامية التي تضمنها الدستور الأميركي تجاه شعوب العالم كله أن يدرك كم أن تفريط هذه الإدارة العاجزة المترددة تجاه الأزمات الدولية وتخليها عن هذه القيم النبيلة هو الذي جعل بشار الأسد يتمادى في «التفنن» بذبح الشعب السوري وبالتمادي في استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد هذا الشعب وجعله يستخدم حكاية الإرهاب استخداما مكشوفا لتبرير كل ما يقوم به من جرائم وويلات، ولتهديد المنطقة كلها وبالتالي فإنه، أي تفريط هذه الإدارة المتهالكة العاجزة بالقيم الأميركية النبيلة، قد أظهر أن الولايات المتحدة قد تخلت عن دورها القيادي الكوني.

وهنا فإن ما يجب التأكيد عليه هو أن الشرق الأوسط سيبقى الأهم منطقة استراتيجية في العالم كله، والأسباب هنا كثيرة ومتعددة من بينها النفط والممرات المائية، ومن بينها أنها تشكل الستار الحديدي لمنع وصول الإرهاب بثقله الكامل إلى الغرب الأوروبي وإلى الولايات المتحدة، وهذا بالإضافة إلى أنها ستبقى كما كانت خندق المواجهة مع النزعة التمددية لروسيا الاتحادية إلى استعادة مكانة ووظيفة الاتحاد السوفياتي السابق التي غدت تتحكم بمعظم الاكتشافات النفطية في شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية والتي أيضا إذا بقي الأوروبيون والأميركيون يتعاملون مع الأزمة السورية ومع الإدارة الأوكرانية المستجدة بكل هذا التخاذل فإنه غير مستبعد أن تستعيد كل دول أوروبا الشرقية التي خسرتها في بدايات تسعينات القرن الماضي بعد انهيار التجربة السوفياتية.

وهكذا في النهاية فإنه لا بد من القول إنه إذا أراد الأميركيون والغربيون أيضا الرد على التحدي الروسي في أوكرانيا الذي هو تحد أيضا لتركيا العضو في حلف شمالي الأطلسي، فإنه عليهم أن يجروا تعديلات حقيقية وفعلية على سياساتهم في سوريا، وأن عليهم ألا يبقوا يتمسكون بمبرراتهم السابقة غير المقنعة حتى لأصحاب أنصاف العقول.. إن المطلوب ليس هو الرد العسكري الذي من الواضح أن الأميركيين لا يفكرون فيه حتى مجرد تفكير بالنسبة للأزمة الأوكرانية، وإنما هي المواقف الجدية الحاسمة، إنْ لجهة تزويد الجيش الحر بالأسلحة التي يحتاج إليها لحسم المعركة في أقرب فرصة ممكنة، وإنْ لجهة تحويل الأجواء السورية كلها إلى فضاءات ومناطق محرمة على سلاح جو بشار الأسد بكل أنواعه وأشكاله. إن هذا هو أقل الرد المطلوب على الغزو العسكري لأوكرانيا، وإلا فإذا بقيت إدارة أوباما تطأطئ رأسها على هذا، وبهذه الطريقة فإنه حتى البحر الأبيض المتوسط سيتحول إلى بحيرة روسية.