ورم «داعش» وأشكالها.. يستفحل أم يُستأصل؟

TT

ربما تكون بعض ذيول حرب بوش (الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو) على الإرهاب مسؤولة بشكل ما، وإنْ بلا تخطيط مسبق، عن الوصول إلى حالة ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). وربما ثمة مبالغة في القول إن الأمر أفلت من الأيدي، وبات من الصعب، إن لم يكن أقرب للمستحيل، احتواء الخطر، ناهيك من القضاء المبرم على تبعات انتشار ما صار يعرف بظاهرة «الجهاديين» المتنافسين حول أيهم يوغل في الدم أكثر.

لا جدال أن الأغلبية المسالمة من المسلمين راغبة في العيش بسلام مع ذاتها وفي التعايش الإنساني المتفاعل مع حضارات غيرها وثقافات الآخرين، على أساس الاحترام المتبادل للتباين، الذي هو في الأصل صنع رباني أراد للأمم التنوع، لكن ذلك لا ينفي أن الأغلبية العظمى لأكثر من مليار مسلم بين أيديها حالة سرطانية بلغت من التقدم مرحلة اليأس، فتسمى بمعجم الطب «تيرمينال»، أو إذا شئتم فإنها قاب قوسين أو أدنى من القضاء على المصاب بها قبل تمكنه من استئصالها.

لقد بات واضحا أن المسلمين يواجهون خطر سرطان يستفحل إن لم يُستأصل بسرعة وقبل أن يتمكن من استئصال قرون استنارة إسلامية اجتهد خلالها علماء مسلمون في غير حقل من حقول العلوم والمعرفة، وأمكنهم بناء جسور اتصال مع حضارات العالم من حولهم، فأعطوا وأخذوا. أما زارعو سرطان إلغاء الغير فيريدون الرجوع بالعالم الإسلامي للوراء، موهمين أنفسهم أن إسلامهم الممعن السيف في رقاب غيرهم يجب أن يسود كوكب الأرض كله.

على الضفة المقابلة، حري بنخب العالم الإسلامي أن تفيق. كفى نوما في عسل إيهام النفس أن الأمر بسيط، استنادا إلى حقيقة أن الإسلام دين أعظم وأقوى من فقاعات مثل «داعش» وما شاكلها. نعم، تلك حقيقة تاريخية بلا شك. لكن إزهاق باطل الزاعمين أنهم الضاربون بسيف الحق بات يستدعي مواجهتهم بقوة تفوق قوتهم أضعافا، وفي ميدان المواجهة الذي اختاروه هم أنفسهم، أي على جبهات الحرب المفتوحة من السودان والصومال إلى لبنان مرورا بليبيا فالعراق وسوريا.

وبالتأكيد، مع تصعيد المواجهة المسلحة يجب استمرار المحاججة الفكرية على كل المستويات، وهذه بالمناسبة مهمة الكفاءات المستنيرة بين أهل العلوم الشرعية من المتمكنين في اختصاصهم، العارفين بما يقولون، وليست من اختصاص كتاب الرأي في الصحافة، أو المشاركين في مناظرات تلفزيونية، خصوصا أولئك الذين يقحمون أنفسهم في متاهات إفتاء وتفسير آيات. وفي هذا السياق، أخاطر بالمشي في حقل ألغام، مع إدراك مسبق لما قد يترتب على المخاطرة، فأقول إن الوقت قد حان كي يأخذ أفاضل علماء المسلمين المشهود لهم بالتمكن علما، وبالحصافة رأيا، وبالسداد قولا، مأخذ الجد كل ما يبلغهم، وما يثار في منتديات حوار وسائل إعلام دولية، مما يعد «مآخذ» على الإسلام تعزز زعم «الجهاديين» أنهم باسم الإسلام يجزون أعناق المسلمين أنفسهم، ويكرهون غير المسلمين على الاختيار بين الجزية وبين السيف، خصوصا عندما تساق هذه من جانب أهل علم ومعرفة ممن هم ذوو احترام ومكانة في مجتمعاتهم، ومشهود لهم بموضوعية آرائهم، وأيضا باحترامهم للإسلام دينا وحضارة.

حقا، لم يعد مفيدا التعبير عن العتب، وأحيانا الغضب، وربما التجاهل التام لما يواجه الإسلام من انتقادات تشعل نارها تصرفات المؤججين نيران القتل هنا وهناك. كما لم يعد كافيا الاكتفاء بعقد ندوات مجاملة تتجنب الغوص عميقا في بحور النص، وتعرض عن الاجتهاد بحثا عما يجرد «داعش» وأشكالها من كل ذريعة تزعمها لإضفاء صفة «المقدس» على ممارسات إزهاق الأنفس وترويعها. أفضل كثيرا للإسلام والمسلمين المسارعة الآن، وقبل أن يتضخم الثمن أكثر، إلى الاعتراف بوجود ورم خبيث حق عليه الاستئصال، أيا كانت السبل. قد يفضل آخرون الجانب الأسهل في التعاطي مع المشكل، وهؤلاء ليسوا أقل قلقا إزاء ما يجري، لكنهم يرون أن الزمن كفيل بإنهاء ظاهرة «الجهاديين» كما أنهى غيرهم من قبل. لكن، مع الاحترام المستحق لكل اجتهاد، أعتقد أن هذا الرأي يبسط مشكلة خطيرة، ويظن أن التخلص منها ممكن بدفشها تحت حصيرة مثقوبة، أو بساط عتيق فاخر. كلا، الواقع والتجربة يؤكدان أن ذلك الحل، أو حتى مجرد انتظار حل وفق ذلك القياس، يشبهان الاحتماء من شمس ساخنة تحت غربال.

مثلا، لقد تساهل العالم الإسلامي، وخصوصا قلبه العربي، مع فظاعات الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر (GIA) في بدايات انتشار سعيرها أوائل تسعينات القرن الماضي. آنذاك بدا لسان حال الجميع يقول ما خلاصته: طالما أن النار التي تحرق دار جاري لم تصل إلى بيتي، فليس علي من الأمر شيء. خطأ؟ بل خطيئة.

مثال آخر، ربما أقل خطورة، تمثل في الاعتقاد بأن التطرف الإسلامي لن يتطور إلى «جهاد» دموي بل سيختفي بمجرد تسريع التوصل إلى حلول لنزاعات تاريخية وفي مقدمها الحل العادل لقضية فلسطين، أو بتعجيل إطفاء الحرائق الإقليمية من السودان جنوبا إلى لبنان شمالا، ذلك اعتقاد كنت أحد المجادلين به. الآن، ثبت لي، وربما لغيري، أنه قصير النظر أيضا. بالتأكيد ما تزال معادلة أن الحل العادل لقضية فلسطين شرط أساس لاستقرار المنطقة، بل وللسلام العالمي ككل صحيحة تماما، ولو حصل ذلك الحل عندما لاحت غير فرصة أمامه، لكانت المنطقة على الأرجح بحال أمني أفضل. لكن لو جمح الخيال الآن، وافترض أن حل قضية فلسطين تحقق خلال أيام بكبسة زر سحري، وهذا محال، فلن يلغي وجود «داعش» وأشكالها. لقد اتسع الخرق وصعب الرتق، ولعل من الأفضل افتراض تمكن «الجهاديين» من حكم غزة، مثلا، وربما السيطرة على جزء من أرض لبنان، أو سيناء، ومن ثم وضع خطط المواجهة على هذا الأساس، بدل الحلم بأن حريق بيت الجار لن يصل إلى الدار، كما حصل من قبل. في الخامس والعشرين من الشهر الجاري تنعقد بالكويت قمة عربية، فهل تضع من الخطط ما يتناسب مع استئصال ورم «داعش» وما يماثلها قبل فوات الأوان؟ لننتظر ونرَ.

[email protected]