حساب وهندسة

TT

لم يرفع عليَّ أبي عصا، ولم يوقع عليَّ عقابا بدنيا، ولم يتفوه نحوي بكلمة تحقر أو تؤذي المشاعر. ولكني أعترف بأن أمي أشبعتني ضربا ذات يوم لأني عصيت أمرا وأنا طفلة.

وذات يوم أوكلت لأخي الأكبر مهمة تدريسي الحساب والهندسة واللوغاريتمات فكان يفقد أعصابه ويتهمني بالغباء إن لم أفك ألغاز تلك المواد تحت إشرافه. وفي إحدى الحصص أشبعني ضربا فصرخت فهرولت إلى بيتنا إحدى الجارات التي كانت تحبني حب الأم لابنتها وشخطت في الأخ المذنب بأن التعليم لا يكون بهذا الأسلوب، وأشارت على أمي أن يستعينوا بمعلم متخصص بدلا من أخي. تلك هي حدود معرفتي بالتعرض للضرب. وقبل أن أدخل في موضوعي اليوم أقول: إن دروس الجبر والهندسة أثمرت تحت إشراف معلم متخصص وحصلت على درجات عالية في نهاية العام الدراسي وشفيت من الإحساس بأنني حتما غبية وإلا لنجح أخي في تدريسي.

أنا عائدة من بيروت حيث أشترك في تقديم برنامج تلفزيوني معروف نشأ تحت شعار «العالم بعيون امرأة». وفي صباح تسجيل إحدى الحلقات كنت جالسة في غرفة الانتظار فلفتت انتباهي سيدة مسنة ترتدي السواد، ولاحظت أنها دامعة العينين. وفضلت ألا أسألها من تكون، لعلمي بأنها إحدى ضيفات البرنامج ولم أشأ أن أدخل في حوار معها خوفا من أن تتبدد طاقتي التي أفضل توظيفها أثناء حواري معها على الشاشة. وحين انتهت طقوس الاستعداد لبدء الحلقة دخلت السيدة الدامعة حاملة بيدها صورة لامرأة شابة جميلة للغاية، فسألتها من تكون صاحبة الصورة؟ فقالت لي بحدة إنها ابنتها الوحيدة التي كانت أما لخمسة أولاد وماتت بعد أن أشبعها زوجها ضربا في جميع أنحاء جسدها وأكمل العدوان بأن ضربها على الرأس عدة ضربات بـ«كسرولة» معدنية فسقطت على الأرض في غيبوبة انتهت بالموت.

اعترتني قشعريرة. واختلطت في وجداني الانفعالات ما بين الأسى والنفور والعطف والغضب، فقلت لها بلهجة لا تجوز في تلك المواقف: وأين كنت وابنتك تضرب حتى الموت؟ ولا بد أن سؤالي حرك في نفسها شيئا من الإحساس بالذنب والعجز والحزن فقالت إنها كانت تحضر عرس إحدى القريبات. ولم ينتهِ إحساسي بالغضب لأن الابنة القتيلة كانت تقيم مع أمها الأرملة هي والزوج المعتدي والأطفال الخمسة، فقلت لها إن الجواب يُقرأ من عنوانه ولا بد أن ميل هذا الرجل للعنف ظهرت دلائله أثناء الخطبة فردت بأنها لم تظهر لأن الخاطب يدلل خطيبته ولو بدر منه سلوك غير اعتيادي تتمنى الأسرة أن يتغير بعد الزواج والاستقرار.

شعرت بأنني أقسو على الأم وأنا أسألها لماذا أنجبت ابنتها خمسة أولاد لا ولدا واحدا أو اثنين حين ظهر الزوج على حقيقته بعد الزواج وبدأ بالاعتداء عليها بالضرب؟ ولماذا كان يضربها؟ وما هي الأسباب؟ فقالت وهي تبكي إن ابنتها كانت كتومة لا تشكو وكانت سيدة بيت من الطراز الأول بحيث كان البراد الكبير في بيتها والفريزر دائما «عمران» بكل أصناف الطعام.

وهنا لمحت إشارة غير مقصودة إلى أن الزوج المعتدي كان ذا مال يمكنه من ملء البراد بالطعام، فتسكت الزوجة وأمها عن نقائصه انطلاقا من ثقافة مريضة توحي للناس بأن الرجل عيبه جيبه ولا تهم نقائصه الأخرى.

القصة تطورت حين سمع الجيران صراخ الزوجة المضروبة فاتصلوا بالشرطة التي جاءت بعد أن كانت الضحية لفظت أنفاسها الأخيرة. وحين سئل الزوج كيف ولماذا؟ قال بأنها سقطت وراحت في غيبوبة، وقيد الحادث على أنه سقطة أدت إلى موت.

أما الأم فلم تقتنع ورفعت شكوى للقضاء. وكأن قدر تلك الزوجة قضى بأن تقتل مرتين؛ فقد أمر القاضي بإخراج الجثة من مرقدها وتشريحها للتعرف على أسباب الموت، وبعد التحقيق أطلق سراح الزوج لعدم كفاية الأدلة فارتطم الرأس بجسم صلب يمكن أن يكون حادثا لأن أحدا لم يشهد عملية الاعتداء على الزوجة بـ«الكسرولة» المعدنية. ولكن ماذا عن الكدمات وآثار الضرب المتكرر؟

لو كنت إحدى الثائرات على صنف الرجال وعلى المجتمع الذي يضع سلطة التشريعات بأيدي رجال ويستثني النساء لقلت إن القاضي انحاز للذكورة وبخس حق الضحية الأنثى. ولكني فكرت بأن الأطفال الخمسة لم يفقدوا أمهم فقط بل لو أدين الأب وأودع السجن لفقدوا الأبوين وتركوا لرعاية جدة مسنة يمكن أن تكون رقيقة الحال أيضا. وفي تلك اللحظة تجلت لي المعضلة التي يواجهها رجل القانون. ولكن هل معنى ذلك أن يترك المعتدي بلا عقاب؟

كانت إحدى الاختصاصيات الاجتماعيات حاضرة هذا اللقاء وأدهشتني بالقول بأن مشروع قانون قدم للمسؤولين لكي يجرموا الاعتداء البدني على الزوجات ولكنه تعثر في أروقة السلطة استنادا إلى أن ضرب الزوجات مسموح به في الإسلام.

وهذا هو أبلغ مثال على تفسير كلام الله وسنة نبيه في أضيق حدود يمكن أن تؤدي إلى ظلم بيِّن؛ فقد عرف عن نبي الله أنه لم يضرب امرأة قط ولم يعنف خادما وأمر الرجل بألا يحقر الزوجة وإن حاول تقويمها نصح ثم أعرض عنها في الفراش وإن ضرب ضرب بسواك، والسواك هو بديل فرشاة الأسنان.

حين بدأت سطور هذا المقال ذكرت واقعة الضرب أثناء درس الجبر والهندسة ثم ذكرت أن الإخفاق لم يكن إخفاقي أنا لأنني حصلت على درجات عالية حين استعانت الأسرة بمعلم متخصص. وعليه فإن اعتداء أخي عليَّ بالأذى البدني كان سببه إخفاقا منه لأنه لم يكن مؤهلا للتدريس. وكثيرا ما يكون انعدام التفاهم بين الزوجين إخفاق الزوج لأنه صاحب القوامة وصاحب اليد العليا. وهذا صحيح إذا ما كان إنسانا سويا. ولكن في بعض الحياة تتغلب عليه الرغبة في السيطرة والإذلال.

وانتهى اللقاء ولكن لم تنتهِ معه انفعالاتي الداخلية ولم أخلد إلى النوم تلك الليلة إلا وقد تجذرت عندي قناعة بأن الجزاء لا بد أن يكون من جنس العمل عملا بتوجيه الله سبحانه بأننا إذا عاقبنا نعاقب بمثل ما عوقبنا به.

أتمنى أن يأتي يوم يعاقب فيه كل زوج يضرب زوجته ضربا مبرحا بعلقة ساخنة يومية يحددها القاضي لتذيقه مرارة الذل والخوف الذي تجربه الزوجة المعنفة التي تطبخ طعامه وتغسل ثيابه وتربي عياله.

فما رأيكم؟