مقياس النيل بالروضة

TT

أماكن كثيرة في مصر تستحق أن نزورها ونستمتع بجمالها وعبق الماضي والتاريخ لكي نستعيد مشاهد عظيمة من تاريخ الإنسانية عندما كان المصري يبني ويشيد لنفسه ولأبنائه وأحفاده وللمستقبل. وليس هناك أروع من هذا المكان المعروف إلى الآن بمقياس النيل بالروضة، والذي قمت والفريق الذي كان يعمل معي بتطويره إلى جانب قصر المانسترلي وبجواره متحف سيدة الغناء في العالم العربي - أم كلثوم. وقد كنا نوجه الدعوة للأجانب الذين يزورون مصر أن يأتوا إلى هذا المكان بالروضة قبل غروب الشمس لكي يشاهدوا أجمل بقعة على نهر النيل الساحر الذي سيظل شريان الحياة والحضارة في مصر مهما حاولوا وقف سيله وإعاقة مياهه بالسدود؛ فيوما ما ستذهب سدودهم ويبقى النهر الخالد الذي ألهم الشعراء قديما وحديثا وعلى رأسهم شاعر النيل حافظ إبراهيم.

ويقع مقياس النيل في الجهة الجنوبية الشرقية لجزيرة الروضة حيث المجرى الضيق لنهر النيل، وقد تم اختيار هذا الموقع في إطار الرغبة في ربط المقياس بالنيل عن طريق المسارب التي توصل الماء إلى بئر المقياس في نقطة هادئة نسبيا حتى لا تتعرض فتحات المسارب للتدمير.. كما أن هذا الموضع لا يتسرب فيه الطمي الوارد من ماء النيل، ولهذا يعتبر اختيار الموقع عبقريا وبعد دراسة وافية لمجرى النيل واتجاهات ترسباته ويؤكد سلامة هذا التخطيط استمرار المقياس في أداء وظيفته حتى الفترة التي سبقت بناء السد العالي بأسوان.

وقد اهتم المصريون منذ بدء حضارتهم في الوادي لقياس منسوب نهر النيل لتحديد المساحة التي يزرعونها في ضوء هذا المقياس.. وقد عرف المصريون القدماء مقاييس متعددة للنيل منها ما هو متحرك، وكذلك الثقل الذي يربط في طرفي خيط أو حبل يرمى به إلى قاع النيل لقياس منسوب الماء، أو القياس بقائم خشبي للتغلب على تحريك الخيط في المقياس السابق، ومن هذه المقاييس ما هو ثابت على هيئة بئر ينزل إليه بدرج يرتفع فيه منسوب الماء بارتفاع ماء النيل وبإحصاء عدد الدرج الذي يغطيه الماء يمكن معرفة قياس النيل.. واستمر الاهتمام بإنشاء المقاييس للنيل في العصرين اليوناني الروماني ثم البيزنطي حيث بنى الرومان مقياسا عند حصن بابليون.. وعند الفتح الإسلامي لمصر كان بها مقياس في مدينة منف وهو من أقدم المقاييس المصرية ونسبه ابن الحكم إلى نبي الله يوسف عليه السلام.. هذا وقد عرف العرب بعد فتحهم لمصر ما لهذه المقاييس من أهمية فظلوا يستعملونها واعتنوا بها إلى أن أنشئوا مقاييس أخرى، بل إنهم ظلوا يستعملون مقياس منف.. وقد عرف عن الموظف المسؤول عن المقاييس باسم «صاحب المقياس»، وكان يقيس المقياس كل يوم عصرا كما كان يقارن مستوى الزيادة في الماء كل يوم بما قبل من ذلك اليوم في العام المنصرم حيث تدون هناك في سجل يرفع إلى أولي الأمر، حيث يظل الأمر سرا إذا انحط مقدار الماء عن المقدار المطلوب حتى لا يعلم الناس ويجزعوا فيتكالبوا على الأسواق وترتفع الأسعار بعد أن تختفي البضائع من الأسواق.

وعلى العكس فعندما يبلغ الماء 16 ذراعا تقدم البشرى بذلك ويحتفل الناس بالزيادة لأن الخير قادم إلى البلاد.. وبإذن الله الخير قادم إلى البلاد.