مراجعة في شخصية الوردي

TT

الدكتور علي الوردي شخصية فكرية يجلها أكثر العراقيين، وتحتل مكانة في الفكر العربي المعاصر. له خصومه وأنا لست منهم، فأنا أجلّ مساهمات هذا الرجل ومواقفه السياسية الجريئة في تحدي صدام حسين والرجعية المحلية. وأجلّ فيه مواقفه التقدمية في شتى شؤون المجتمع العراقي، لا سيما بالنسبة للمرأة. وأغنانا في سرد الكثير من تاريخ المجتمع العراقي، لا سيما في عمله الموسوعي «لمحات من المجتمع العراقي». غير أن لي شكوكي في مكانته العلمية. أراه يعمل في إطار التراث، فمعظم ما يسرده يعتمد على ما سمعه: قال فلان إنه سمع من فلان، وهلم جرا. ونحن قوم تشربنا بالشعر والخيال، واعتدنا على طمس الحقائق وتحريفها. بناء أفكار ونظريات واجتهادات على أساس السماع والرواية، ودون ما يسندها وثائقيا وحسيا، مجازفة خطيرة لا تليق بالعلماء.

كنت أقرأ هذا الكتاب الجليل من محمد عيسى الخاقاني «مائة عام مع الوردي»، وهو من أفضال المركز الثقافي العراقي في لندن الذي أصبح حقا نبعا يفيض بنشر المؤلفات الجديرة بالنشر. وفي ما نقله السيد الخاقاني وجدت سذاجة ظاهرة في طروحات الوردي، تجلت بشكل مؤسف في تعامله مع شعوذات بعض الدراويش، كضرب رؤوسهم وبطونهم بالخناجر والسيوف كمعجزات من وحي الشيخ الفلاني والشيخ الفستكاني أو الطريقة الكشتمانية. نظر إليها أستاذنا الجليل نظرة جد، ووصفها بأنها أعمال ميتافيزيقية يصعب تفسيرها. لو كنت في مكانه لاشتريت دشداشة جديدة وأعطيتها للدرويش، أو حفنة صغيرة من الدولارات مقابل كشفه سر هذه الألعوبة السحرية وتعليمي عليها. وأنا أيضا أرد الجميل بالجميل، فأعلمه كيف يدافع عن حقوقه، ويقضي على الفقر والحرمان الذي يعيش فيه بتعلم حرفة أو مهنة تدر عليه من الدخل أضعاف ما يجنيه من الدروشة.

قضى الوردي عدة سنوات في أميركا وبريطانيا، لا أدري ماذا فعل خلالها، ولكن يظهر أنه لم يدخل أحد المسارح ويتفرج على ما تعرضه من أعاجيب الألعاب والفذلكات السحرية التي تصل إلى حد قطع امرأة بالمنشار إلى نصفين وإعادة تركيبها حية ترزق! ويظهر أن الوردي لم يتفرج على التلفزيون ويشاهد مثل ذلك من أعاجيب على الشاشة. بيد أن هؤلاء الفنانين أصحاب الأكروبات لا يدعون أنهم يقومون بأعمال ميتافيزيقية لا يمكن تفسيرها؛ أو يفعلونها بفعل بركة الشيخ الفلاني أو نعمة القديس التلاني. إنها ألعاب ماجيك لا غير. وتستطيع أن تدعو أحدهم لبيتك ليبهر الأطفال بمثل ذلك في حفلة ذكرى ميلاد ابنك لقاء بضعة دولارات، وهو ما فعلته لأولادي تنويرا لهم وتحذيرا.

إنني أعتبر غسل دماغ جمهورنا الساذج، الأمي منه والأستاذ الجامعي الضال على السواء، من مثل هذه الخزعبلات والخرافات والاعتماد على السحرة وقارئي الفأل، واجب في أعناق كل مثقف واع. تبديد ظلمات الجهل والغيبيات والخزعبلات هو المدخل الصحيح لخلق عقول ناضجة تتنكب الوعي العلمي والتفكير العقلاني الحر على طريق بناء وطن ناهض ومتطور ورفاه الأمة وتقدمها.