من واقع تجربتي: قسم الولاء العسكري لمن؟

TT

لا شك في أن قسم الولاء للأوطان مقدس ولا يقبل الاجتهاد والتفسير. وكـ«تقليد عام» درج على أن يؤدي الضباط المبتدئون قسم الولاء علنا، كما يقوم كبار القادة بتأدية القسم. وفي كل الحالات، يجري التركيز على مبدأ حماية المصالح الوطنية العليا، التي تمثل الإطار العام للقسم، مع وجود اختلافات نسبية ترتبط بالزمان والمكان والنظم السياسية والمعتقدات الفكرية والدينية. وفي البلدان المضطربة من دول العالم الثالث يخضع القسم للتفسير من قبل الشخص المعني وغيره، باتجاهات متعاكسة، وتبقى النيات المستندة إلى المنطق السليم قاعدة أساسية للحكم على المواقف، بعيدا عن النظرات السطحية والدعايات السياسية ذات الطابع الغوغائي الموجهة إلى الناس البسطاء، الذين يمكن التغرير بهم لأسباب تتعلق بمحدودية ثقافاتهم.

ولا يعني وجود هامش التفسير الممكن تداوله في الدول المضطربة التنكر للمبادئ والمفاهيم الدينية والاجتماعية والفكرية، إلا أن المتغيرات وتبدل المعطيات والظروف التي تمر بها البلدان والشعوب تجعل عامل الزمن مؤثرا في القرارات التي يقدم عليها مؤدو القسم، خصوصا عندما تصدم قواعد السلوك في الحروب والأزمات والمواقف المؤثرة بمصير الأمم والشعوب وتهدد المصالح الوطنية العليا، فالمتغيرات عندما تحدث فإنما تسري على أكثر من اتجاه وتتعدد تفسيراتها.

وعلى سبيل المثال، فقد أدى ضباط الجيوش العربية والقيادات العليا قسم الولاء لبلدانهم، وخاض بعضهم حروبا فرضت عليهم، وأشد الفرض تحريكا للمشاعر الداخلية والعقل البشري هو ذلك الذي يكون نتاج سياسات خاطئة متهورة تقود البلد من مصيبة إلى أخرى، مع عدم وجود ضوابط دستورية وقانونية تمنع التدهور أو توقفه. ومن هذه النقطة يبدأ التفسير المنطقي بفصل فقرات القسم وعزل نظام الحكم عن مصلحة الوطن، فيتطور القسم إلى حتمية الدفاع عن المصالح العليا بالتحرك الفعال ضد الطبقة الديكتاتورية الحاكمة بالطرق والأساليب الممكنة، وترتفع حرارة التحرك طبقا لمدى التفرد في الحكم والقرارات المتخذة التي تؤثر على الأمن الوطني. ويمكن لأي محكمة مستقلة أن تسأل القائد العسكري عن أسباب عدم تحركه ضد التفرد في الحكم لضمان سلامة الوطن، وعدم التحرك يعد عدم التزام بالقسم.

الوطن شعب وأرض ونظام يعمل وفق ضوابط مكتوبة على شكل دستور أو صيغة مماثلة مقرة شعبيا. وعندما يتخذ رئيس متفرد أو رئيس يستند إلى رؤية مجموعة من موظفيه المحيطين به، قرارات تلحق ضررا مدمرا بمصالح الوطن بمقوماته الثلاث، فإنما يضع نفسه في خانة الخصومة والعداء للشعب مباشرة، الأمر الذي يضفي شرعية واضحة على التفكير في الرد من قبل القادة العسكريين، بعيدا عن التفكير الحزبي وما يماثله من أفكار أخرى، بغض النظر عن التفسيرات الخاطئة والفوضوية، التي لا ينبغي الإنصات إليها في تقييم المواقف. وحدثت في أكثر من بلد عربي حالات تحرك للقوات المسلحة اكتسبت تأييدا شعبيا، وسجلت بطريقة إيجابية في تاريخ الجيوش.

لقد مرت عليّ تجربة القسم أكثر من مرة في الوضع العراقي، بحكم العمل في مفاصل الاستخبارات والعسكرية، وكذلك العمل الحزبي، وكنت أركز نقاط البحث في تفكيري على الحدود الفاصلة بين قدسية مصلحة البلد وبين السلطة المتفردة، فتتحول ممارسات وسلوكيات المسؤول إلى نقاط تحفيز على التحرك، وليس للخنوع والركون إلى التفسيرات الجامدة.

وعندما يكون المسؤول عاقلا ويفكر بطريقة منطقية ولا يخضع للإغواء والابتزاز الخارجي، فإن مساندته سياسيا من باب أمني وعسكري تعتبر واجبا ملبيا للقسم، أما إذا خرق الالتزامات يصبح التحرك اضطرارا مشروعا، لأنه ليس إلا موظفا مكلفا خدمة عامة، مهما حمل من توصيفات وألقاب، وفي وضع كهذا، فلا مجال لتفسير قسم الولاء لمصلحة الرئيس.

ومثل هذه الرؤية لا تعني التحريض على التآمر واستخدام عناصر التأثير لغرض حزبي ووظيفي وطمع في حكم، بل تمثل توضيحا واقعيا لحالات حصلت وتحصل في عمليات المجابهة مع نظم أحزاب وتوجهات ديكتاتورية فردية، استبدت خارج خطوط العقل والإنصاف، تحت أغطية ثورية زائفة، لم تجلب غير الويلات والخراب والدمار، على عكس السلوك الإيجابي للدول الديمقراطية وتلك المعروفة باعتدالها وحرصها على سلامة بلادها وشعوبها. ففي هذا النمط من الدول يبقى القسم مقدسا، بعيدا عن التفسيرات الخاطئة، والاشتراك في الحرص على القسم سمة إيجابية للعلاقات الصحيحة في أجهزة الدول ومؤسساتها المدنية والعسكرية والأمنية.