تتار القرم.. الذاكرة اليقظة

TT

خطوات تمهيدية على كل الصعد «عسكرية، قانونية وسياسية»، تنجزها موسكو بوتيرة سريعة تهدف إلى وضع اليد على شبه جزيرة القرم. فقد أعلن نائب رئيس مجلس الدوما الروسي سيرجي مورينوف، في 6 مارس (آذار) الحالي عن مشروع قانون قدم لمجلس الدوما (البرلمان) يسهل انضمام جزء من دولة أجنبية إلى روسيا قد يصدر الأسبوع المقبل، وهذا التصريح تزامن مع إعلان المجلس الأعلى للدولة في القرم المعين من قبل موسكو عن تحديد موعد الاستفتاء على مستقبل القرم في 16 الشهر الحالي، وهو الذي سيضع سكان القرم بين خيارين؛ فإما الانضمام إلى روسيا وإما العودة إلى دستور 1992 الذي ينص على أن القرم جزء من أوكرانيا مع امتيازات حكم ذاتي خاصة.

وفي خطوات سريعة تهدف إلى احتواء تتار القرم، الموالين في أغلبهم لحكومة كييف الجديدة والمعادين تاريخيا للروس، أوفدت موسكو وبشكل عاجل رئيس جمهورية تتارستان التي تتمتع بحكم ذاتي ضمن روسيا الاتحادية، رستم مينيخانوف، إلى عاصمة القرم سيمفروبول، حيث التقى رئيس وزراء القرم الجديد المعين من قبل موسكو سيرجي اكسيونوف (الذي لم يحصل في آخر انتخابات جرت في القرم إلا على 2.5 في المائة من أصوات الناخبين)، ووقعا معا اتفاقية تعاون في مجالات الطب والسياحة والزراعة والاستثمار والابتكارات.

كما عقد رئيس تتارستان مجموعة من اللقاءات مع نواب من برلمان القرم، وزار مقر مجلس شعب تتار القرم، حيث أكد أمام رئيس وأعضاء المجلس أن جمهوريته تولي اهتماما كبيرا لتعزيز العلاقات والتعاون مع الشعب التتري في القرم، وأن هناك الكثير من الأمور المشتركة في الديانة واللغة والثقافة تجمع بينهم، لكن زعيم تتار القرم رفعت شبارويف أكد خلال لقائه مينيخانوف رفض التتار الانفصال عن أوكرانيا.

بدوره، دعا مفتي موسكو ألبير كرغانوف سكان شبه جزيرة القرم، من مختلف الطوائف، إلى التعاون من أجل تعزيز السلام، لكي لا تتحول الأزمة في أوكرانيا إلى فتنة طائفية. وأكد المفتي كرغانوف، في بيان أصدره، على ضرورة توحيد جهود التتار والروس من أجل إحلال السلام، محذرا من أن أحداثا جرت في كوسوفو وليبيا وسوريا أظهرت أن مثل هذه الفتن سوف تلحق ضررا كبيرا بالقرم.

الحراك الروسي تجاه التتار جاء بعد أن رفض أعضاء مجلس شعب تتار القرم، وهو أعلى هيئة تمثيلية لهم، على لسان رئيسه رفعت شبارويف، الاعتراف بحكومة اكسيونوف، المفروضة هي ورئيسها من قبل موسكو، بعد أن تم عزل رئيس الوزراء المنتخب أناتولي موغيليف، واعتبروا الحكومة الجديدة غير شرعية، وأن التصويت عليها تم تحت ضغط السلاح الروسي.

وعلى الرغم من التطمينات التي أطلقها رئيس الوزراء المعين اكسيونوف، من أن حكومته لا تمثل تهديدا للتتار، فإنهم شرعوا في تشكيل فرق للدفاع عن النفس وحماية للمساجد ومراكزهم الثقافية والاجتماعية، تحسبا لهجمات مفترضة قد تقوم بها عناصر ميليشيات روسية، أرسلها الكرملين إلى القرم إضافة إلى المحاربين «القوزاق»، الذين كانوا تاريخيا إحدى أهم أدوات القياصرة في حربهم على التتار والعثمانيين، ويجمع بينهم وبين حكام موسكو في مختلف العهود تاريخ دموي طويل يصعب تجاوزه.

ذاكرة تتار القرم المثقلة أكثر من غيرها بالاضطهاد والإبادات الجماعية والتطهير العرقي والتهجير على يد الجيش القيصري، خصوصا عندما هتف جنود الجيش الروسي سنة 1771 على أبواب عاصمة القرم بخشسراي «لا عودة لا انتظار.. يجب محو التتار»، وقاموا بقتل أكثر من 350 ألف تتري، وتدمير مساجدهم وإحراق وثائقهم والقضاء على الأرشيف التاريخي والفكري للتراث التتري، ثم قام الأمير منشكوف سنة 1883 بمصادرة الأراضي والأملاك التترية، وإغلاق مدارسهم وتدمير مساجدهم ودفعهم إلى الهجرة حيث نزح إلى تركيا في تلك المرحلة قرابة المليون، واستمر عدد التتار في القرم في التناقص، حتى وصل عام 1941 إلى قرابة 900 ألف من أصل 9 ملايين، كانوا في شبه جزيرة القرم قبل بداية غزو القياصرة نهاية القرن الـ18.

واستكمل الديكتاتور السوفياتي جوزيف ستالين ما بدأه القياصرة وقام بنفي وتشريد أغلب سكان القرم التتار سنة 1944، بعدما اتهمهم بالعمالة لألمانيا النازية، وقام بعملية ترحيل جماعي لهم داخل أراضي الاتحاد السوفياتي، فنقل أكثر من 400 ألف إلى سيبيريا وآسيا الوسطى، في قطارات الماشية والبضائع، وهناك من يرجح أن ستالين لم يبقِ على أحد من التتار في القرم.

وقد بدأ التتار يعودون تدريجيا إلى القرم منذ 1989، مع تعزيز الحكومات الأوكرانية المتعاقبة ولو بشكل بطيء لحقوقها، كما قامت حكومة الرئيس يوشينكو «البرتقالية» بإعادة جزء من أراضيهم، ومنحت الكثير منهم الجنسية الأوكرانية، وحاولت التخفيف من حجم البطالة التي يعاني منها 60 في المائة من تتار القرم، الأمر الذي متن تحالفهم مع كييف على حساب موسكو.

أغلب التقارير الصحافية عن القرم في الأيام الأخيرة تشير إلى أجواء الاحتقان بين الطرفين «الروسي والتتري» في القرم، كمؤشر على انفجار مقبل يصعب تجنبه، كما أن رد الفعل التتري على تواصل تدفق الجنود والميليشيات الروسية والتصرفات الاستفزازية التي يقومون بها، سيدفع إلى أعمال عنف باتت أمرا متوقعا ينتظر اللحظة المناسبة، حيث يستعد الطرفان، مع تزايد الاعتقاد بوجود عناصر تترية تنتمي إلى حزب التحرير، ولم يعد مستبعدا احتمال هجرة عناصر جهادية من القوقاز وآسيا الوسطى، وأمكنة أخرى من العالم إلى القرم في حال تفجر النزاع.

موسكو القلقة أصلا من الجماعات الإسلامية المتطرفة قامت عام 2013 بحملة وقائية في المدن الكبرى كموسكو وسان بطرسبورغ وروستوف وغيرها، وطالت الاعتقالات قرابة 900 شخص من المسلمين الروس، في عملية وقائية تحسبا لأي رد فعل على الموقف الروسي من الأزمة السورية، أو من عمليات انتقامية للمسلحين الشيشان ضد منشآت سوتشي الرياضية.. لكنها الآن أمام مواجهة لا تقدر أن تحصرها في القرم، فإذا انفجرت أعادت إلى الأذهان كل رواسب الصراع الروسي القيصري السوفياتي مع المسلمين على طول الامتداد الأوروآسيوي المشترك، ما قد يجعل من كل روسيا أهدافا للجماعات الإسلامية المسلحة، المنتشرة في معظم الدول المجاورة لروسيا مع الجماعات العائدة من سوريا.

كما أن عودة شبح التهجير الذي يؤرق التتار لا يمكن أن يسكت عنه دوليا وإسلاميا، خصوصا بعد أن تطرق الرئيس الروسي بوتين في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء التركي إردوغان، إلى أوضاع تتار القرم، وما سربه النائب المسلم في البرلمان الأوكراني مصطفى عبد الجميل قرم أوغلو، عن لقاء مع وزير الخارجية التركي داود أوغلو «المتحدر من أصول تترية» أثناء زيارته كييف، إلى أن تركيا والعالم لن يقفوا مكتوفي الأيدي، إذا تعرض التتار المسلمون لاضطهاد جديد.

موسكو التي يزداد العداء بينها وبين الشعوب العربية والمسلمة يوما بعد يوم، جراء انعكاس موقفها من الأزمة السورية، واعتبارها من قبل شخصيات وجمعيات ومؤسسات وأحزاب عربية وإسلامية، إضافة إلى الرأي العام السوري والعربي والإسلامي، منحازة لصالح طائفة إسلامية ضد طائفة أخرى، في جو طائفي متوتر ومتفجر. إن اختيارها لحلفائها يبرر للجماعات الإسلامية المتطرفة أن تجعل من روسيا هدفا لها، في حملة ما قد تدعيه من لزوم الدافع عن ديار وأعراض المسلمين والسنة خاصة، باعتبارهم المستهدفين من موسكو.