بعض «مآثر الثوريين» في ليبيا بعد لبنان

TT

خيرا فعل العهد الليبي الجديد بإعادته الاعتبار إلى الملك الراحل إدريس السنوسي، وذلك بموجب إجراءات رسمية تقضي بإعادة النظر في كل القرارات القذافية لجهة جوازات السفر والممتلكات ورفع الحظر عن أفراد الأسرة السنوسية الذين يعيشون خارج البلاد وبعضهم من الجيل الثالث الذي ولد بعدما كانت العائلات غادرت هجرا أو تهجيرا.

وهذه الخطوة يتمنى المرء أن تكون منطلقة من رؤية موضوعية، بمعنى أن الإجراءات ليست فقط لأن العهد القذافي اتخذها وأنها رد على تلك الإجراءات، وإنما لأنه من غير الجائز عندما تتبدل الأوضاع بفعل انقلابات على الشرعيات القائمة أن تنتزع الحقوق بمختلف أنواعها من العهد المنقلب عليه، كما من غير الجائز بل ومن المعاصي الأخلاقية أن يحرم الذين كانوا في الحكم من حق الدفن في وطنهم. ومثل هذا الأمر حدث للملك إدريس الذي انتهى به المقام في مصر ولزوجته وللكثيرين من شباب الحقبة السنوسية، مع الأخذ في الاعتبار مواقف وطنية عربية للملك إدريس من بينها أنه خلال القمة العربية الاستثنائية في الخرطوم (سبتمبر/ أيلول 1967) كان إلى جانب الملك فيصل بن عبد العزيز والشيخ عبد الله السالم الصباح نواة خطة الدعم المبرمج لإزالة آثار العدوان، الأمر الذي أثلج صدر الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان جاء إلى تلك القمة منحني الكبرياء بسبب هزيمة الخامس من يونيو (حزيران) 1967 ومحاولة الانقلاب التي اتهم بها صديق عمره المشير عبد الحكيم عامر.

إعادة الاعتبار من جانب الذين أتوا أو تم استحضارهم للذين كانوا في سدة الحكم، تساعد في إبعاد الرغبة في الانتقام والتشفي بالذي أصاب مَن كانوا حكاما وانتهوا إلى أسوأ مصير. كما أن إسقاط اللهفة إلى ما يسمى بالاجتثاث، يساعد أيضا على اختصار المحنة التي يكابد ويلاتها الألوف من أبناء الأمة. وعندما يعاد الاعتبار إلى من أسيء إليهم وتنحسر نهائيا ظاهرة الاجتثاث والعزل فإن ملامح الاستقرار والعيش المشترك ترتسم بالتدرج في المشهد السياسي - الاجتماعي العربي. وما نقوله هو برسم معظم الذين يمارسون بتلذذ سياسة الانتقام اجتثاثا أو حرمانا للحقوق أو محاكمات مهينة أو مصادرة للممتلكات أو إسقاطا لحق العيش في الوطن والدفن في ترابه.

وإذا كانت الأحوال في ليبيا توجب الأخذ بسياسة إعادة الاعتبار على النحو الذي أشرنا إليه، فلأن خمسا وأربعين سنة من «العقاب الثوري» أثبتت مدى الأثر السيئ على النفسية الليبية وكيف أن التقاليد المستحبة في المجتمع الليبي غدت على درجة من الخشونة، فضلا عن أن إفرازات ذلك العقاب أسست جيلا من الشباب الذي لا يعير الأصول الاهتمام حتى إذا كانت هذه الأصول تساعد على بدء مرحلة من العمل السياسي الواقعي. ودليلنا على ذلك ما حدث يوم الاثنين 3 مارس (آذار) 2014 في العاصمة الليبية وعلى أيدي مجموعات من «النتاج الثوري» الجديد، الواقعة متمثلة في أن متظاهرين اقتحموا مقر المؤتمر الوطني العام (البرلمان) الذي تتمثل فيه الأحزاب المستحدثة بثمانين مقعدا والمستقلون بمائة وعشرين، ونتيجة ذلك عقد الأعضاء المائتان، وبعضهم غادر – كما قيل - المقر مصفوعا أو مضروبا أو ملكوما، اجتماعاتهم في فندق. وهذه الواقعة جعلتني أستحضر مثيلة لها حدثت في بيروت قبل ثمان وثلاثين سنة. وحيث إن أوجه التشابه بين الواقعتين واحدة من حيث إن هدف الانعقاد إنجاز خطوات على طريق كف اليد الميليشياوية ووضع الأمر في المدار الدستوري لاختصار الأضرار الفادحة الناشئة عن انفعالات الثوريين، فإنني أستحضر الواقعة البيروتية لكوني عشتها ميدانيا مع زملاء كنا مكلفين من الصحف العاملين فيها تغطية انتخاب رئيس للجمهورية يحل محل الرئيس سليمان فرنجية الذي أدى الصراع الميليشياوي، على نحو الصراع الدائر في ليبيا، إلى أن البرلمان اللبناني أدخل في جلسة عقدها في قصر أحد رجال الأعمال، لاستحالة الانعقاد في مقر المجلس بسبب حصاره من ميليشيات لا تتوقف ممارسات العنف من جانب أفرادها، تعديلا على إحدى مواد الدستور فبات ممكنا اختصار مدة ولاية رئيس الجمهورية سليمان فرنجية الذي طالت قذائف ما يسمى «جيش لبنان العربي» بقيادة الملازم أول أحمد الخطيب الذي توفي قبل أسابيع، القصر الجمهوري، الأمر الذي اضطر الرئيس إلى مغادرته. والاختصار كان أربعة أشهر بدل شهرين لعل وعسى يتم في الوقت نفسه العمل على انتخاب رئيس جديد للجمهورية وبذلك يكون تم تفادي الإسقاط الانقلابي المستند إلى عريضة نيابية.

في قصر رجل الأعمال أيضا حيث تم تعديل مادة اختصار ولاية رئيس الجمهورية (سليمان فرنجية)، تمت عملية انتخاب الرئيس البديل (إلياس سركيس). وكانت عملية الانتخاب فريدة من نوعها.. قذائف أفراد الميليشيات تنطلق من كل صوب. النواب خائفون وبعضهم لا يريد الحضور. أما الذين حضروا فكانوا مغامرين بحياتهم. ولأنه لا بد من اكتمال النصاب لكي تكتسب عملية الانتخاب شرعيتها، فإن منظمة الصاعقة (الفلسطينية شكلا السورية فعلا التي يقودها زهير محسن) تولت إحضار بعض النواب من بيوتهم وتحت حراسة مشددة. أما نحن كصحافيين فإننا قمنا بالتغطية المجتزأة للعملية وكل واحد خائف على حياته يرتجف القلم بين يديه وتتساقط الأوراق على الأرض ويطلب من المولى عز وجل أن يبقيه في دائرة السلامة. وتلك حال النواب التسعة والستين داخل القصر الذين شاركوا في عملية التصويت يوم السبت 8 مايو (أيار) 1976 بحيث أعطى 66 أصواتهم لمصلحة إلياس سركيس، وتلك كانت إرادة الرئيس حافظ الأسد الممسك بلبنان، وثلاث أوراق بيضاء.

ما يعنينا في الأمر هو كيف أن نواب الأمة لا يستطيعون ممارسة حقهم في واجبهم الذي يحقق الاستقرار ويتولى التأسيس لنظام تدار فيه البلاد وفق شريعة الدستور بديلا عن شريعة التنظيمات التي تسمي نفسها ثورية مع أنها مجرد ميليشيات تتحكم بمصير البلاد وأحوال العباد.

ولولا خطوات متعقلة كتلك التي أشرنا إليها مطلع هذا المقال والمتمثلة بإعادة الاعتبار إلى الملك الراحل إدريس السنوسي لجاز اعتبار ما يجري في ليبيا نوعا من التدمير الممنهج لكيان ولأصول العيش المشترك. وحيث إن التوجهات الإسلامية هي الغالبة على مَن هم في سدة الحكم ومن هم ينتفضون على كل ما يمكن أن يحقق الاستقرار، فإننا نتساءل: لماذا لا يستحضر هؤلاء رؤية أحد رموز التسامح، المهاتما غاندي، الذي سار على خطاه نيلسون مانديلا، المتسامح الأحدث في دنيا نبذ الثأر والانتقام والتشهير وحرمان حق المواطنة؟ ولقد لخص غاندي الرؤية بعبارة من ست كلمات هي: «نحن لا نعادي الأشخاص، بل أخطاءهم». ومعاداة الأخطاء تكون بتصحيحها وليس بما يجري في ليبيا والعراق ومصر وإيران.