السعودية ترسم حدود صبرها

TT

ليس من قبيل المبالغة القول إن القرارات السعودية الأخيرة حول تجريم الإرهاب لا تقل أهمية عن قرارها الكبير في حرب الخليج الثانية، حين استعانت بالقوات الأجنبية إلى جانب قواتها لطرد صدام حسين من الكويت وحماية أراضيها. كلا الموقفين استند إلى واقع لا يمكن تكذيبه، وهو أن الدولة مهددة في أمنها من جهات بعضها اتضحت نياته، وبعضها الآخر يروغ كما يروغ الثعلب.

من حق السعودية التي اشتهرت بصبرها على تجاوزات الإخوة والأصدقاء والغرباء والدخلاء أن ترسم حدا لهذا الصبر، حين يمس استقرارها ويتهدد مستقبل أبنائها فكريا وثقافيا.

الجماعات والأحزاب التي وضعتها السعودية في قائمة الإرهاب لم تكن مفاجأة لأحد، حتى جماعة الإخوان المسلمين، التي شاركتنا أفكارها في مقرراتنا الدراسية وخطب مساجدنا، لم يكن ورودها في القائمة مستغربا، ونحن نشهد كل يوم أعمالها الإرهابية في مصر وليبيا. والحقيقة لا أعرف ما الذي قد يتبقى لجماعة الإخوان المسلمين إن كانت السعودية ومصر تضعها في كفة واحدة مع تنظيم القاعدة.

الأكيد أن السعودية تملك ضد هذه الجماعات ما نعلمه وما لا نعلمه، مما جعلهم في قائمتها الأولية، وبالتالي ما يدين المتعاطفين معها، ويضعهم تحت طائلة المساءلة. كل الأحزاب والجماعات المدونة في القائمة السوداء تشترك في أنها أينما حلت حل الخراب، في اليمن ومصر وليبيا وتونس وسوريا ولبنان، حتى في الكويت والبحرين. كل النزاعات والدمار والحروب في المنطقة العربية جاءت من هذه الجماعات وبسببها. في وسط دائرة النار هذه، كان من الواجب على الدولة السعودية حماية نفسها وأبنائها من تداعياتها، بل حتى حماية مستقبل الدولة من بعض أبنائها الذين غووا ومالوا وتعاطفوا مع بعض هذه التيارات، خاصة بعد الثورات العربية التي أوصلت رسائل مضللة جعلت من المنتمين أو الموالين لهذه الجماعات يظنون أن الوقت قد حان لفرض وجودهم على الساحة سياسيا، إن أمكن، أو بالعنف.

لا شك أن القرار السعودي الذي تعهدت بتنفيذه الحكومة سينظف المجتمع من ملوثات فكرية عاثت فسادا بسبب صبر الدولة ومهادنتها لهم، كان من نتيجتها أن نرى شبابا سعوديا غضا يقتل بعضه بعضا في سوريا بلا أي قضية، إلا لمجرد أنهم استُغلوا من عصابات مرتزقة، في الوقت الذي تحترق فيه قلوبنا غيظا حينما نرى محرضيهم ينعمون في بيوتهم بكل سبل الراحة والرفاهية والأمن. السعودية اليوم غضبت لنفسها، وحق لها ذلك، فقررت بوضوح أنها ستحاسب من يخالف هذا القرار بعد تاريخ اليوم الأحد 9 مارس (آذار) حتى على تجاوزاته السابقة التي غضت الطرف عنها.

القرار كان كلمة فصل عادلة، ليس فقط حماية للدنيا بل أيضا للدين. الإسلام دين الرحمة والعدل والإنسانية، صوّرته الجماعات المسلحة بأنه دين عنف وانتقام، وصوّرته التيارات السياسية البراغماتية أنه بضاعة رابحة دنيويا. يكفي أن التاريخ الإسلامي يشهد بأن الدعوة إلى الله فيها من المعاناة والصبر والجلد ما يجعل الداعية في مرتبة المجاهدين، في حين أن بعضا من المشتغلين بالدعوة اليوم يتصدرون قوائم الأثرياء والسياح حول العالم بسبب استغلالهم للمجتمعات المتدينة، وعلاقاتهم وانتمائهم مع بعض من ذكر في قائمة الإرهاب. هذه الصورة المشوهة عن الإسلام تطلبت موقفا حازما من السعودية بشكل خاص نظرا لقيمتها الدينية وصفتها كقبلة للمسلمين، لتنقية الإسلام مما اعتراه من مساومات واستغلال ومتاجرة من أدعياء الدين والجهاد.

الموقف السعودي الأخير موقف تاريخي، له متطلباته وتداعياته، وهذه مسؤولية الأجهزة الأمنية بمختلف قطاعاتها، إنما الجانب الأهم هو اجتثاث الإرهاب من جذوره التي تنمو في المدارس والجامعات. في رأيي أن مهمة وزيري التربية والتعليم، والتعليم العالي، أكثر صعوبة من وزير الداخلية. من الممكن مراقبة وضبط ومحاسبة المخالفين للقرار، ولكن كيف يمكن التحكم فيما يقوله المعلم في كل فصل دراسي في كل المدارس وكل قاعة دراسية في الجامعة؟ إن الدعوة للتطرف أو تجميل صورة الجماعات الإرهابية من أهم وسائل التحريض، دعوا عنكم خطب المساجد، لأن تقنينها أو مراقبتها لا يكلف شيئا، لكن بالنظر إلى أن القرار استهدف مدى واسعا بدءا من المتعاطف بكلمة أو رمز وحتى الذي يحمل سلاحا، فإن إدارات التعليم ومديري الجامعات عليهم جل عبء التنفيذ.

القرار له مزايا عديدة، يأتي على رأسها شفافية الدولة في إظهار مواقفها بصريح البيان والعبارة، وهذه ليست عادة سعودية، فهي غالبا لا تختار الصدام المباشر حتى مع أعدائها، ولا تسميهم في بعض الأحيان بأسمائهم. أما وقد حصل، فإننا نتنبأ بأن المحرضين والمتعاطفين مع هذه الجماعات من السعوديين الذين نقرأ تغريداتهم في «تويتر» سيكفّون أذاهم عن عامة الناس، وعن الشباب خاصة، وسيُحاسبون إن خالفوا القرار سواء في «تويتر» أو خلال ممارستهم أعمالهم، التي، وللأسف، معظمها مرتبط بشكل أو بآخر بالتعليم والدعوة والإرشاد.

إنها مرحلة تطبيب لمرض أصيبت به السعودية منذ سنوات، سيكلف جهدا ووقتا، وربما بعض الآلام، لكننا في النهاية نستهدف العافية، والعافية تستحق.

[email protected]