عصفور كفل زرزور

TT

تنظر محكمة فرنسية في مصرع أرملة ثرية قيل إنها انتحرت، لكن والدتها وشقيقها يؤكدان أنها نحرت. إنهما يتهمان صديقا بقتلها بعد أن أوصت له بثروتها البالغة كذا مليون يورو. هل هناك من شهود على الجريمة؟ نعم، شاهد وحيد هو «ثيو»، كلب الضحية.

قلت لنفسي إن مصائب قوم عند قوم... فالمحروس «ثيو» جاء في وقته لأنني أبحث عن فكرة لهذا العمود، خصوصا أنني لم أسمع، من قبل، عن شهود من هذه الفصيلة يجلسون أمام المحققين. إن اسمه جميل ومختصر عن الاسم الإغريقي العريق ثيودوروس. وهو يذكرني بكثيرين، منهم الرئيس الأميركي الأسبق ثيودور روزفلت الذي قضت عليه الحمى الاستوائية، أو بصاحب «الجريمة والعقاب» فيودور (حسب اللفظ الروسي للاسم) دوستويفسكي، أو بمؤسس الصهيونية ثيودور هرتزل، أو بثيودور نوت أحد أبطال «هاري بوتر»، أو بالمخرج الهولندي ثيو فان غوغ، الذي مات تحت رصاصات متطرف مغربي في أمستردام، أو بالموسيقار اليوناني ميكيس تيودوراكيس صاحب لحن «زوربا»، أو مواطنه المخرج ثيو أنجيلوبولوس، الحائز السعفة الذهبية لمهرجان «كان» ومات مصدوما بدراجة نارية للشرطة. وعند هؤلاء تقف حدود معرفتي بحاملي النسخة الأجنبية من الاسم.

الأرملة كانت قد شنقت نفسها في عوامتها الراسية في «السين» عند ضاحية باريسية راقية. ولما عاينها الطبيب العدلي توصل إلى أنها حادثة انتحار. لكن خبيرا في طباع الحيوانات لم يقتنع بالنتيجة وراح يراقب تصرفات الكلب «ثيو» وكتب تقريرا يصفه فيه بأنه «ودود ولعبي بشكل خاص». وقد أخذ الخبير الكلب إلى العوامة ولاحظ أنه يتوقف ويركز عينيه على السلالم التي وجدت عندها جثة الضحية. وعندما جيء بقطعة من ثيابها راح الكلب يتشممها ويهز ذيله مستوفزا. أما عندما جيء له بقطعة من ثياب المتهم، فقد جفل وبدت عليه علامات الخوف، ثم أصيب بالإرهاق ولم يتمكن الخبير من الاستمرار في استنطاقه. وبالمناسبة، فإن الخبير يدعى البروفسور «موتون»، وهو ما يعني بالعربية «خروف».

مات «ثيو» قبل ابتداء جلسات المحاكمة. لكن المدعي العام أدرج التقرير، أي موقف الكلب وانطباعاته، في ملف الدعوى. وهي المرة الأولى في تاريخ القضاء الفرنسي التي يواجه فيها متهم شاهدا كلبا. ونظرا لغرابة الموقف، فقد أخلى القاضي سبيل المتهم، الأمر الذي شق على صاحبة القضية فمضت بها إلى محكمة الاستئناف. وفي الأثناء، عثر المحققون على آثار الحمض النووي للجاني فوق الحبل الأزرق الملتف حول رقبة الأرملة.

يتجادل الحقوقيون الفرنسيون في أهلية الحيوانات كشهود إثبات. وهو جدل راق يتعلم منه المرء ويستمتع. فقد استنكر أحد علماء الطبيعة التقليل من شأن هذه الكائنات واعتبارها ناقصة عقل أو محدودة المدارك. إنها «موهوبة بل عبقرية»، حسب رأيه. وضرب مثلا بكسار الجوز، وهو طائر من نوع الغرابيات قادر على العثور على حفنة من الغلة المخبأة في مساحة تمتد لعدة كيلومترات مربعة. ثم أدلى محرر علمي مخضرم بدلوه في النقاش قائلا إن ذاكرة السنجاب، مثلا، تفوق بمراحل ذاكرة البني آدم.

كنت أعرف أن اليابانيين جهابذة في الصناعات الدقيقة. لكنني لم أتخيل أنهم دربوا الحمام على فرز أعمال بيكاسو والاستدلال عليها من بين لوحات رسامين غيره وتمييزها، مثلا، عن أعمال زميله مونيه. حسنا هذه فهمناها، فكيف نستوعب أن طيورا في طوكيو تستطيع أن تصنف الرسوم حسب مدارسها الفنية فتضع الانطباعيين مع الانطباعيين والكلاسيكيين مع الكلاسيكيين... وهلم جرا؟ لا شك في أن نقاد الفن يضعون أيديهم على قلوبهم خشية أن يخطف بلبل ياباني المهنة. كثير من الحكايات، في آدابنا، جاءت على لسان الطير. وحكاية الهدهد مع النبي سليمان معروفة. وقد أقام هيتشكوك، مخرج الرعشة الباردة في السينما، بفندق «المأمونية» العريق في مراكش واستلهم من غربان حدائقه فكرة فيلم «الطيور». وفي حين يتوقف قضاة فرنسيون عند شهادة كلب، فإن القضاة في العراق كانوا يرفضون الاستماع إلى شهادات «المطيرجية»، أي مربي الطيور. والسبب، حسبما أظن، هو أن كلام هؤلاء يرفرف في الهواء ولا يستقر على حالة. والمثل الشعبي عندنا يقول: «عصفور كفل زرزور واثنينهم طياري».