كلام واقعي

TT

قد لا يكون هناك جديد في تأكيد المشير السيسي في لقاء أخير بأن الوضع الاقتصادي في مصر صعب جدا، فهو شيء متوقع بعد ثلاثة أعوام من المشاكل السياسية التي أضرت بقطاعات الاقتصاد الرئيسة الذي كان يحتاج إلى مواصلة النمو بمعدلات لا تقل عن سبعة في المائة سنويا، الجديد هو قوله إن هذه المشاكل لن تحل سريعا وإنها قد تحتاج إلى تضحية جيل أو جيلين حتى تجد الأجيال المقبلة شيئا، وكذلك تصريحاته حول أن لا يمكن لشخص أن يحل المشاكل كلها وحده.

هذا النمط من الواقعية والتبصير بالحقائق هو ما يحتاجه الخطاب السياسي في الفترة المقبلة خاصة بعد انتخابات الرئاسة المتوقع أن يخوضها السيسي ويفوز بها، ودخول عهد جديد ستكون التحديات أمامه جساما، نتيجة تراكمات المشاكل عبر عقود من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي لم تتمكن من الخروج من عنق الزجاجة لأنها لم تعالج المشاكل بواقعية، وفضلت سياسة ترحيل المشاكل إلى المستقبل خوفا من المواجهة، إلى درجة لم يعد هناك فيها أي إمكانية لترحيل جديد وإلا غرقت السفينة كلها.

المفارقة أن مشكلة الاقتصاد المصري مطروحة منذ عقود، ومعظم السياسيين والاقتصاديين والخبراء يعرفون بالتحديد أين مكامن الخلل التي تحد من نمو طبيعي حقيقي مستدام يطلق طاقات الاقتصاد والمجتمع، وعلى رأسها مشكلة الدعم الذي تتضاعف اعتماداته مع مرور السنوات ويأكل الموارد، وكل الخبراء يعرفون أنه عندما تكون السلعة أو الخدمة تطرح بأقل من قيمتها الحقيقية في السوق، فإن هذا يفتح المجال للهدر والاستغلال والفساد، وفي أحيان يصل القليل إلى الفئات المستهدفة من هذا الدعم.

وكانت هناك محاولة مبكرة في النصف الثاني من السبعينات لخطوات إصلاحية في تخفيف دعم السلع، والتي أدت بعدها إلى ما سمي بمظاهرات الخبز في عهد الرئيس الراحل السادات، ثم التراجع عن القرارات.

بعدها ظلت معظم الحكومات المصرية اللاحقة تعيش تحت هاجس هذا الكابوس تقدم رجلا وتؤخر أخرى في هذا الموضوع، أو تعتمد على المساعدات في تسكينه دون أي إجراء حاسم، ليكبر حجم المشكلة عبر العقود ويصبح العلاج أصعب وأكثر إيلاما للمجتمع مع الزيادة السكانية، وزيادات الأسعار خاصة في مجال الطاقة، ولتصبح أي حكومة لا تجد موارد كافية للإنفاق على قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة لأن فاتورة الدعم تلتهم الجزء الأكبر من الميزانية. وفي فترات معينة زادت فيها الموارد من السياحة أو الاستثمارات الأجنبية، كانت الحكومات تفضل عدم المواجهة السياسية خوفا من رد الفعل طالما أن الظروف مواتية لها، لكن هذا كان مجرد تسكين أو تأجيل لعلاج الخلل البنيوي في الاقتصاد.

خطأ الحكومة التي كانت قائمة في مصر في أواخر السبعينات والتي أدت إلى احتجاجات الخبز لم يكن أنها اتخذت قرارات بتخفيض دعم السلع حسب توصيات صندوق النقد الدولي وقتها من أجل إصلاح عجز الميزانية، فلو كان هذا الإجراء قد طبق لوجدت الحكومات التالية الطريق أسهل أمامها نحو إصلاح اقتصادي أعمق خاصة في التسعينات حينما كانت الظروف مناسبة عندما شطبت ديون وتدفقت تمويلات واستثمارات خارجية، وكانت الظروف الإقليمية مواتية من حيث المناخ السياسي الذي يساعد الاستثمار.

الخطأ هو أن هذه القرارات اتخذت فجأة دون أي تمهيد إعلامي أو سياسي لها يشرح ويفسر للرأي العام الذي سيتحمل عبء هذه القرارات وارتفاعات الأسعار، كما أنه لم يكن هناك شيء واضح يشرح إجراءات أخرى موازية تخفيفية عن الفئات الأقل قدرة في المجتمع والتي لا تقوى على تحمل هذا العبء.

ومثل حكومات سابقة فإن مشكلة دعم السلع الأساسية والطاقة وإجراءات الإصلاح الأخرى، وكيفية مواجهة الرأي العام بقرارات صعبة هي التحدي الذي سيواجه النظام والحكومة اللذين سيديران مصر بعد إتمام انتخابات الرئاسة المقبل، مع فارق كبير هو أنه لن يكون لديهما رفاهية التأجيل والترحيل، وأن الوضع الاقتصادي أصعب بكثير من أي وقت سابق بعد ثلاث سنوات من الركود فاقمت مشاكل سابقة، فضلا عن وجود شارع متحرك سياسيا، وفي فترات كان البعض يغذيه بتوقعات غير واقعية. ومن شأن عبور الجزء الصعب الذي يشبه الدواء المر يفتح آفاقا أكبر للتنمية، وهي مسألة ليست مستحيلة إذا كانت هناك أفكار خلاقة لتنفيذ الإصلاحات تراعي تخفيف العبء عن الفئات التي لا تقوى على تحمل هذه الإجراءات، وإقناع الناس بها، وهناك في الأدراج الكثير من الدراسات والأفكار التي تحتاج إلى إرادة سياسية لتطبيقها، ويسهل من الأمر إذا كانت هناك قيادة سياسية لديها شعبية يثق فيها الرأي العام عندما تطالبه بتقديم تضحيات من أجل مستقبل أفضل.