الاختيار السعودي: الأمن!

TT

لا تزال تتردد أصداء وتبعات القرار السعودي المهم بتصنيف بعض الجماعات الإسلامية واعتبارها جماعات إرهابية خالصة.

السعودية باختصار اختارت رفع سقف الأمن والأمان لحماية نفسها من آثار مجهولة النتائج والاتجاهات، وغير مفهومة ولا معروفة المدى.. السعودية ليست الدولة «الوحيدة» ولا «الأولى» التي تتجه بقوة لحماية نفسها وأمنها من مخاطر تأتي عن طريق جماعات متطرفة. السعودية لديها «مواجهات» مختلفة مع جماعات أصولية متشددة جميعها تحولت من حالة فكرية إلى خط أمني واضح وشديد جدا، فحركة «جهيمان» التي أدت إلى احتلال الحرم المكي ومواجهات مسلحة عنيفة مع القوات الأمنية للدولة، كانت شرارة ومقدمة لما هو آت، ثم ظهرت حركات «منظمة» تحمل فكرا متطرفا وبدأت في «تقسيم» المجتمع الدولي بين كافر ومسلم، وكل ذلك كان يتم بأسماء مثل «الصحوة» و«السرورية» وغيرهما.. وكان الخروج للاقتتال والقتال في أفغانستان والعراق واليمن وأخيرا سوريا، وهذه المجاميع القتالية كانت في أغلبها تحت تنظيم القاعدة وفروعه المختلفة، ولكنها كلها تحمل الفكر التكفيري والمتطرف والدموي ذاته، وحاولت القيام بالعديد من العمليات الإرهابية الإجرامية على أرض السعودية.

السعودية من جانبها بدأت في مواجهات أمنية استثنائية ولاحقت هذه المجاميع وتغلبت عليها، مع عدم الإقلال من فداحة الثمن وسقوط عشرات الشهداء في هذه العمليات المكلفة جدا، واحتفظت السعودية دوما بخط رجعة، فسمت هذه المجاميع «الفئة الضالة»، وفتحت خط «المناصحة» مع من عاد إلى البلاد وأبدى تجاوبا للدخول في حوارات الغرض منها تبيان المسائل الشرعية من علماء متمكنين وإظهار الحقائق التي «غسلت» بالسموم في أذهان وعقول من تم التغرير بهم، بحسب التعريف الرسمي لهذه الحالات المقلقة والخطيرة. السعودية رفعت درجة المواجهة وقررت الدخول في مراحل تطهير مجتمعها من قنوات وأدوات التمويل لهذه المجاميع، فقامت بعملية إعادة هيكلة لأنظمتها وقوانينها الخاصة بالحسابات البنكية والجمعيات الخيرية والمؤسسات الدعوية، وكانت هذه جولة أخرى، ولكن مهمة، في مواجهات الجماعات المتطرفة داخل السعودية التي كانت في الوقت ذاته تنفتح في حواراتها الوطنية مع نفسها لكسر الجمود الفكري باسم الدين، وبالتدريج تعمل على قبول المذاهب الأساسية لإيجاد الفتاوى الوسطية والمتسامحة التي تخاطب روح الإسلام ومقصد الشارع، بدلا من الاعتماد فقط على تفسيرات محدودة رخيصة للنص المقدس. والآن ها هي السعودية تصعّد في مواجهتها مع الفكر الإرهابي الهمجي، وارتأت أن تسمي منظمات بعينها وتصنفها بوصفها مجموعات إرهابية ممنوع التعامل معها أو الانتماء لها بأي شكل من الأشكال. ولعل الذي من الممكن أن تتم مقارنته بقرار السعودية هو المشهد الألماني الذي تلا أحداث الحرب العالمية الثانية، فوقتها قررت ألمانيا اجتثاث كل جذور فكر النازية المتطرفة من المشهد الثقافي والسياسي والفكري والاقتصادي.. قامت ألمانيا بتجريم الانتماء لكل الجماعات المتطرفة النازية، أو النازية الجديدة، وجرمت مطبوعاتهم وأفكارهم، بل بلغ الأمر أنها منعت معزوفات الموسيقار والمؤلف الكلاسيكي الألماني المشهور فاغنر لأنها، بحسب ما كان يعتقد وقتها، من أسباب «إلهام» أدولف هتلر وتؤثر على أفكاره، وطبعا طال المنع سيرة هتلر الذاتية وكتابه المعروف «كفاحي». ألمانيا قررت عدم المجازفة أو المجاملة أو التعامل مع التشدد بلغة أنصاف الحلول، وهي أيضا المسألة ذاتها والتوجه نفسه الذي كان سائدا في الولايات المتحدة خلال فترة الخمسينات من القرن الماضي، في حق الشيوعيين أو الفرق المتطرفة دينيا ولها نزعات انفصالية وميول قتالية عنيفة.

مع الزلازل المحيطة بالمنطقة ووجود «أدبيات» و«شخصيات» جاهزة لأن تكون النار والحطب لإشعال البلاد، كان أمام السعودية خيار واحد، وهو تطوير جاد لحماية المنظومة الأمنية وحماية مجتمعها من أدوات تحطيمه باسم الدين والفضيلة. السعودية اتخذت الإسلام والكتاب والسنة أسلوبا ونهجا لسياستها، وحتى إن كان هناك قصور، فهو يظل قابلا للإصلاح والمصارحة والنقد، لأن المزايدة على من «إسلامه» أفضل وأحسن هو التدخل في شؤون لا يعلمها إلا الله، وبالتالي تكون الغاية من هذا الهراء هي السياسة والحكم.. وبالتالي، يكون الموضوع لا علاقة له بالدين أبدا.