وسائل التواصل الاجتماعي والسلطات في روسيا

TT

قبل عدة أسابيع من تدخل القوات الموالية لروسيا في شبه جزيرة القرم، كسب الرئيس فلاديمير بوتين نصرا مهما آخر. ففي 24 يناير (كانون الثاني) أصبحت شبكة «في كونتاكت» للتواصل الاجتماعي، والتي يستخدمها 60 مليون مستخدم، تحت سيطرة رجال أعمال متحالفين مع الكرملين. وتعتبر شبكة «في كونتاكت» هي «فيسبوك» روسيا وأكبر وسيط مستقل في البلد. وقاوم مؤسس الشبكة بافل دوروف الضغوط من أجل أن يتنازل لفترة طويلة. لكنه باع أخيرا نصيبه الذي يبلغ 12 في المائة من الشركة إلى إيفان تافرين، وهو شريك لأليشر أوسمانوف المناصر لبوتين وحكمه الاستبدادي. لم يكن رجل الأعمال الذكي الشاب محظوظا في توقيته. أرادت الدولة أن تسيطر على المجال الوحيد المستقل الذي يمكن للروس أن يتواصلوا وينظموا أنفسهم من خلاله قبل دورة الألعاب الأولمبية. وإذا كانت الدولة أصدرت مرسوما خاصا يسمح بالتنصت على هواتف الصحافيين في سوتشي، فكيف لها تجاهل «في كونتاكت»؟ وأثبت عدم وجود شبكة تواصل اجتماعية مستقلة أنه مريح للكرملين وهو يهيئ لحربه.

انطلقت شبكة «في كونتاكت» عام 2006. وأسس دوروف عندما كان طالبا في جامعة ولاية بطرسبرغ أكبر شبكة طلاب عنكبوتية في روسيا. وفي عام 2006 لاحظ صديقه فياشيسلاف ميريلاشفيلي المشروع. وكان ميريلاشفيلي تخرج في جامعة تفتس حيث شاهد الـ«فيسبوك» لأول مرة، والذي كان انطلق لتوه من مبنى جامعة هارفارد المجاورة. وبالاشتراك مع صديق آخر أخذ دوروف وميريلاشفيلي في تطبيق أفكار مارك زوكربيرغ للمستخدم الروسي. وكتب دوروف وشقيقه نيكولاي الشفرة. ضمّن دوروف رؤيته المتحررة في الإنترنت كفضاء للحرية التامة لنشر المعلومات. كانت قوانين حقوق المؤلف في روسيا غير دقيقة ووفرت «في كونتاكت» أكبر خدمات مضيفة في أوروبا، إذ أصبح بوسع المستخدمين تحميل أي مادة يرغبون فيها.

اعتبر الكرملين دوروف تحرريا تصعب السيطرة عليه، خاصة بعد الانتخابات البرلمانية في ديسمبر (كانون الأول) 2011، وإعلان الطبقة المتوسطة بموسكو أن انتصار حزب بوتين مزور، وتجمع 150 ألف شخص في ميدان بولوتنايا احتجاجا. فقدت «في كونتاكت» بعدها دعم السياسي فلاديسلاف سوركوف. وأخذت تتلقى مكالمات متواصلة من مكتب المدعي العام في خدمات الأمن الروسية «إف إس بي» تطلب غلق حساب جماعة معارضة لبوتين تدعى «روسيا المتحدة - حزب المحتالين واللصوص»، وحسابات جماعات أخرى مرتبطة بالمعارضة. ورد دوروف بصورة لكلب الإسكيمو يرتدي قميصا بغطاء رأس ويمدّ لسانه.

واعتبره الكرملين غير مريح ويقوم أحيانا باستعراضات غريبة مثل إلقائه لأوراق النقد من فئة الـ5000 روبل من النافذة في تحدٍ للمساهمين الذين يحاولون إخضاع «في كونتاكت» لسيطرة مجموعة «ميل آر يو». استغل الشركاء في «يونايتد كابيتا» خلافا بين دوروف وشركائه للحصول على سهم كبير في الشركة. وكانت العملية من تنظيم إيغور سيشين الذراع اليمنى لبوتين، لكن اتضح أن «في كونتاكت» تحقق ربحا قليلا للغاية. ثم وُجه اتهام لدوروف بدهسه لشرطي بسيارته المرسيدس وفُتح تحقيق في المسألة. فغادر دوروف روسيا وبعد عدة أشهر أغلق التحقيق فجأة كما فُتح فجأة. بعد ذلك عاد دوروف إلى بطرسبورغ وقرر بيع أسهمه. ولا يرجع ذلك كثيرا لخوفه، بل لأنه فكر في استثمار أرباحه لإنشاء منتج جديد: نظام رسائل إلكترونية جديد اسمه «تليغرام» والذي يكسب نحو 400 ألف مستخدم جديد يوميا.

في غضون ذلك أخذ الكرملين يشدد من إحكام قبضته على وسائل الإعلام التقليدية وشبكات التواصل الاجتماعية. وفي يناير (كانون الثاني) أقر البرلمان قانونا جديدا يسمح بالغلق السريع لأي موقع إلكتروني غير مرغوب فيه. وليس هناك سبب يدعو للاعتقاد بتخفيف ذلك بعد أن انتهت دورة ألعاب سوتشي. وبدأ أصحاب وسائل الإعلام يشددون على المحررين، وكثّف الكرملين من دعايته. ودمجت وكالة الأنباء الرسمية «أر آي إيه نوفوستي» وقناة «روسيا اليوم» في هيكل واحد. وكان المدير السابق بدأ نشر مقالات رأي حول مواضيع حساسة تنحرف عن الموقف الحكومي الرسمي. والآن يديرها ديمتري كيسيليف مقدم برنامج جماهيري اشتهر بكراهيته للمثليين.

يعد شراء «في كونتاكت» عملية معقدة وحساسة للكرملين. ولا يعتبر وضع الإعلام بيد رجال أعمال أوفياء طريقة جديدة للتحكم في الصحافيين. لكن المساهمين في «في كونتاكت» الموالين للكرملين غير خبيرين بتقنية المعلومات، ويخشون من احتمال قيام دوروف بحجب كامل إن شددوا أكثر مما يجب. وسعى دوروف الذي يفهم ذلك للحفاظ على صورة الرجل المهووس الذي لا يخشى التقاضي ولا الخسارة. ولذلك كانت عملية بيع أسهمه محسوبة بدقة متناهية. لكن عجز دوروف وشركته في النهاية عن تحمل الضغط من رجال الأعمال الموالين لبوتين، والذين اغتنوا من ذات ثروة النفط والغاز التي حسنت مستوى حياة الروس بينما شلت عزيمتهم السياسية.

لكن هناك توترا خاصا بالجيل الحالي عندما يتعلق الأمر بالرقابة على الإعلام. فمعظم أنصار بوتين من الروس الذين تتجاوز أعمارهم 35 سنة. أما جيل الألفية الثالثة الذي نشأ على «في كونتاكت» فهو في أفضل أوضاعه متشكك بشأن رحلات بوتين الغريبة.. طيور الكركي أو استخراجه القوارير الضيقة من قاع البحر الأسود. إن بطلهم الحقيقي هو دوروف الذي أسس شركة تساوي قيمتها حاليا 3.5 مليار دولار أميركي بشراء مشغل بالمال الذي وفره من عمله غير المتفرغ، وهذا البطل يغادر روسيا الآن بعد أن حاول الالتزام بالقوانين الروسية. والآن تتمتع الدولة بالدخول المباشر بصورة أكبر وفي أي وقت تريد إلى المعلومات الشخصية والمعلومات والمواقع وحركة عشرات الملايين من الروس، ناهيك عن المعلومات الخاصة بعواطفهم ونياتهم. بوسع الكرملين أن يرتاح الآن، فأي نشاط عنيد للمعارضة على الإنترنت أصبح يمكن التحكم فيه بسهولة.

* محرر مجلة «الآمال والمخاوف» الرقمية عن التجارة في روسيا