توسعية الاتحاد الأوروبي تسببت في أزمة أوكرانيا

TT

«لن تسمح أوروبا لروسيا بضم القرم» هددت الزعيمة الألمانية أنجيلا ميركيل، عشية استفتاء القرم (غدا الأحد)؛ ويومين بعد إعلان رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في مجلس العموم إجراءات ضد روسيا.

إعلان مستر كاميرون عقوبات لتجميد أرصدة الأوليغارك الروس الداعمين للرئيس فلاديمير بوتين وفيزات الإقامة في بريطانيا بعد عودته من الاجتماع الطارئ في بروكسل، يبدو تنفيذا لاستراتيجية أوروبية لدعم القوميين الأوكرانيين (وتجاهلا لحقوق ثلث الأوكرانيين من روس، بثقافة وتقاليد روسية - راجع مقالنا الأسبوع الماضي).

إجراءات الزعيم البريطاني ستضر بالاقتصاد القومي في رأي الخبراء الماليين في مدينة لندن the city حي المال والبنوك والبورصة.

فسيسارع الأوليغارك الروس بسحب أرصدتهم واستثمارات تقدر بالمليارات من سوق لندن المالية وبيع عقاراتهم وأندية رياضية ما يؤدي لانهيار أسعار العقارات.

الخطوات تعطي إشارات سلبية لأثرياء العالم ومستثمريه بعدم الشعور بالأمان على أموالهم في بريطانيا، فيحولونها بعيدا عن سوق لندن التي يمر خلالها في اليوم الواحد نصف معاملات العالم المصرفية والمالية.

فلماذا يغامر المستر كاميرون بخطوة غير حكيمة اقتصاديا؟

سياسته الخارجية اتسمت بالبراغماتية والتوازن والرجوع لوزارة الخارجية والكومنولث، وليس حسب مبدأ آيديولوجي كرئيس الوزراء الأسبق توني بلير، ولا يتمتع بربع شعبيته في الصحافة الأميركية لانتهاجه خطا مستقلا لحماية مصالح الأمة، بدلا من بلير الذي جعل بريطانيا العظمى تابعا لواشنطن.

ومثلا رغم ضغوط المنظمات اليهودية وكثير من نواب مجلس العموم على المستر كاميرون قبل زيارته لإسرائيل للاعتراف رسميا بتعريفها بـ«الدولة اليهودية»، فإن كاميرون رفض واكتفى بخطاب لبق متعاطف مع إسرائيل ومتوازن مع خطاب التعاطف مع الفلسطينيين عملا بنصيحة وزارة الخارجية. وتماشيا مع سياسة الأصدقاء العرب كما شدد سكرتير رئيس الوزراء في مناقشاته معنا، كصحافيين، على عبارة «وسيزور الأراضي الفلسطينية المحتلة» كتعريف القرار 242 لعام 1967 صياغة وزير الخارجية اللورد كارادون وقتها بمشاركة وزير الخارجية المصري الراحل محمود رياض.

فلماذا تخلى المستر كاميرون عن براغماتية تضع مصالح بلاده في المقام الأول وخضع لضغوط أوروبا وواشنطن بشأن روسيا؟

السؤال يطرح نفسه بشأن المستشارة الألمانية. روسيا أصبحت الشريك الأول التجاري من ناحية الكم المادي مع ألمانيا (والعكس صحيح)؛ واردات الغاز والبترول الروسي تمثل 20 - 30 في المائة (حسب الموسم) من مصدر طاقة ألمانيا بعد قرار غير حكيم بإغلاق معظم محطات الطاقة النووية لكسب أصوات اليسار والخضر (آيديولوجية وليست دراسات علمية أو اقتصادية) في ألمانيا.

الإجابة في تحليل لم يتناوله سوى أربعة معلقين بينهم كاتب هذه السطور، وتجاهلته الأغلبية، عن عمد أو عن عدم إدراك، حول الاستراتيجية غير المعلنة لخطط طويلة المدى لمفوضية الاتحاد الأوروبية (غير منتخبة ولا توجد آلية لمحاسبة أعضائها سواء أمام البرلمان الأوروبي أو البرلمانات القومية، الممثلة لمواطنيها في بلدانهم، والتي تتراجع قدراتها على مناقضة القرارات الأوروبية باطراد وفقا لمعاهدة لشبونة، وبدورها إعادة تسمية للدستور الأوروبي الموحد).

الزعيمة الفعلية للاستراتيجية الأوروبية هي فراو ميركل بثقل بلادها الاقتصادي والمادي. فالبوندزبانك (البنك المركزي الألماني) يضمن القروض والمنح المالية لبلدان جنوب أوروبا التي تغرق اقتصاديا كاليونان وإسبانيا، وتمويل بلدان شرق أوروبا الأفقر كرومانيا وبلغاريا.

كما أن تطوير ما كان سوقا أوروبية مشتركة (ما التحقت به بريطانيا عام 1972 وأقنع قرابة 69 في المائة من ناخبيها بالتصويت بنعم في استفتاء 1975 للبقاء في السوق بدلا من مغادرتها)، استراتيجية التحول إلى فيدرالية الولايات المتحدة الأوروبية.

أوروبا الموحدة هي سياسة داخلية ألمانية وليست خارجية. الأطفال في مدارس ألمانيا يتعلمون أنهم أوروبيون من بافاريا أو أعلى ساكسون قبل أن يتعلموا أنهم ألمان.

طبعا لا يمكن إغفال الدوافع السيكولوجية التاريخية وهي كبت القومية الألمانية بشوفينية ما بعد الحرب العالمية الأولى التي ولدت من رحمها النازية بكوارثها الإجرامية على الألمان والبشرية جمعاء.

لكن مشروع القرن 21 لأوروبا الفيدرالية الكبرى من المتوسط إلى البلطيق، ومن المحيط الأطلسي حتى البحر الأسود، سيعطي ألمانيا فرصة تحقيقها، بالاقتصاد والمال، ما لم تحققه بحربين عالميتين، وهو السيطرة على سياسة أوروبية موحدة تخلق اقتصادا وسوقا تضارع، إن لم تتفوق في قوتها على الاقتصاد الأميركي.

فراو ميركل تسعى إلى تحقيق نسخة طموحة ومطورة من حلم بسمارك في نهاية القرن 19.

منذ انتهاء الحرب الباردة بسقوط جدار برلين وتفكك حلف وارسو، أسرعت بروكسل الخطى للتوسع شرقا (هناك مفوضية مهمتها التوسع يرأسها ستيفان فيول، وهو تشيكي ألماني - وأول مفوض للتوسع كان الألماني غونتر فيرهيوغين). توسع لضم بلدان حلف وارسو، ثم ابتلاع جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا، غرب حدود روسيا.

الاستراتيجية ترضي أميركا (مقابل الخلاف حول اتفاق التجارة العالمية) وتصبح مسمار جحا لنشر أسلحة حلف الناتو في الحديقة الأمامية لموسكو، ووضع أوروبا تحت مظلة الدفاع الاستراتيجي الأميركية يمنح حكوماتها فرصة تقليل نفقات دفاع الردع الاستراتيجي.

وعي الرئيس فلاديمير بوتين بطموح الاتحاد الأوروبي دفعه لتقديم عشرة مليارات للرئيس الأوكراني المعزول فيكتور يانوكوفيتش لمنع خطوة تنتهي حتما بعضوية كاملة لأوكرانيا في الاتحاد الأوروبي. هذا يهدد بحرب انقسامية؛ فسكان المناطق الشرقية وشرق الشمال أغلبيتهم روس أو بثقافة روسية ومرتبطون اقتصاديا بروسيا.

ومنذ عهود القياصرة وموسكو ترى أوكرانيا، استراتيجيا، منطقة عازلة لوقف أي غزو من الغرب قبل عبور الحدود الروسية.

أما بالنسبة للقرم، فهي خط أحمر لن يسمح الرئيس بوتين بعبوره.

ولا يخفى على المفوضية الأوروبية المتوسعة شرقا أنه لن يظهر زعيم روسي واحد - منذ عهد كاترينا ألكساندرا الكبيرة - يسمح بانضمام القرم بصفتها جزءا ذا حكم ذاتي من أوكرانيا (بعد إهداء خروشوف شبه الجزيرة لأوكرانيا بشروط عام 1954) للغرب، فيرى قطع الأسطول السادس الأميركي ترسو في سابستابول قاعدة أسطول الجنوب الروسي الضخم.

فوصول الأميركيين لسابستابول سيعطيهم فرصة دوريات في البحر الأسود، المنفذ الوحيد للروس إلى المياه الدافئة.

لم تتسبب موسكو في الأزمة الأوكرانية بقدر ما فجرتها الاستراتيجية التوسعية للمفوضية الأوروبية، بالاتفاق مع الناتو، لخلق فيدرالية أوروبية واسعة. وهو أحد الأسباب التي ترفضها معظم الشعوب الأوروبية، ولا يجرؤ كثير من زعمائهم على إجراء استفتاء لشعوبهم حول عضوية الاتحاد الأوروبي.

بلير تراجع عن وعده الانتخابي بإجراء الاستفتاء. وكان الاستفتاء أيضا في مانيفستو المحافظين، وتراجع كاميرون عنه، لكنه يعد باستفتاء عام 2017 إذا أعيد انتخابه في مايو (أيار) 2015.

ولو كانت المفوضية الأوروبية تواجه انتخابات أمام الشعوب، ما كانت ستغامر بمواجهة قد لا تحمد عقباها، مع الزعيم الروسي الأقوى منذ الخمسينات، فلاديمير بوتين.