المشير فهيم وحديقة ورده.. في أفغانستان

TT

توفي أخيرا في العاصمة الأفغانية كابل إثر أزمة قلبية، المشير محمد قاسم فهيم، «المجاهد» الأفغاني السابق، الذي أمضى حياته منذ الصبا وهو يقاتل مقاوما الاحتلال السوفياتي، ثم خائضا غمار الحرب الأهلية الأفغانية، وأخيرا مقاتلا ضد حركة طالبان. وجاءت وفاة فهيم قبل ثلاثة أسابيع فقط من موعد انتخابات الرئاسة في أفغانستان، حيث كان سيشكل نفوذه ودعمه قوة دفع مهمة لأقلية الطاجيك والمرشح البارز الدكتور عبد الله عبد الله.

المشير فهيم كان، بصفته نائبا للرئيس الأفغاني، لاعبا مؤثرا جدا في مجال اتخاذ القرارات، كما كان القائد الأعظم نفوذا بين المجاهدين السابقين. ويذكر أنه على أثر أحمد شاه مسعود، قائد «التحالف الشمالي» وأبرز زعماء الطاجيك في سبتمبر (أيلول) 2001 قبل أيام قليلة من مهاجمة «القاعدة» برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، خلف مسعود - الملقب بـ«أسد بانشير» - في قيادة «التحالف الشمالي».

ولكن تغيرت الظروف فجأة، فهاجمت القوات الأميركية أفغانستان، فأطاحت حكم طالبان، حلفاء «القاعدة»، ووجد «التحالف الشمالي» الفرصة سانحة للمساهمة في بناء حكم جديد خلال مؤتمر بون، ومن ثم في حكومة الرئيس حميد كرزاي الانتقالية.

الحكومة الانتقالية تلك استمرت في السلطة 12 سنة، غير أن فهيم لم يعش ليوم يشهد فيه تولي رئيس جديد حكم أفغانستان في حقبة حساسة جدا من تاريخها. إنها حقبة حساسة لأن القوات الأميركية، كما هو مقرر، ستغادر الأراضي الأفغانية في نهاية عام 2014 الحالي، كما أنه لم توقع حتى الساعة الاتفاقية الأمنية المنتظرة مع الولايات المتحدة.

وكان فهيم، الذي لم يتردد في إعلان دعمه ترشح الدكتور عبد الله عبد الله، يدرك سلفا أن الانتخابات ستكون صعبة في بلد تسود فيه آفات الفساد والتزوير والمحسوبية، وبموته لا شك ستتأثر حملة عبد الله، لكنني أحسب أن غياب فهيم لن يكون سلبيا بالضرورة عليها.

لقد مات فهيم ميتة طبيعية لكنها مع ذلك تذكرني بظروف غياب أو تغييب بي نظير بوتو التي اغتيلت قبيل الانتخابات الباكستانية؛ فموتها المفجع حينذاك أعطى عائلتها تعاطفا جماهيريا واسعا أسهم في انتخاب زوجها آصف زرداري رئيسا. والمعروف أن زرداري ما كان يعد شخصية سياسية، بل ما كان يتمتع بشعبية تذكر، لكنه تعاطف الناخبين وحزنهم الشديد على بي نظير دعما حملته ففاز في الانتخابات.

ما أود قوله هنا أن وفاة فهيم جاءت في وقت حساس جدا، وهو بفضل وزنه السياسي الثقيل قد يكون لغيابه قبل فترة قصيرة من الانتخابات الأفغانية تأثير مشابه لتأثير اغتيال بي نظير بوتو على حملة زوجها، من منطلق تعاطف الناخبين الأفغان معه ومع حلفائه.

من جهة ثانية، لا شك في أن خيبة الأمل في أداء حكومة كرزاي كبير، بل كبير جدا؛ فالشعب ساخط على سجل كرزاي كرئيس طيلة السنوات الـ12 الأخيرة. واليوم لا يرى الشعب، بعد حرب طالت 12 سنة ضد الإرهاب والفضائح المتصلة بالتصرف بالإعانات الدولية، سوى مزيد من أعمال العنف والاضطرابات والفساد والفقر.

المواطنون الأفغان متضايقون جدا من الوضع الراهن ويفتشون عن بديل إذا ما أجريت انتخابات نزيهة لا يتلاعب فيها المحسوبون على كرزاي. وبالتالي، إذا أدى العامل العاطفي دوره بفعل وفاة فهيم، وإذا ما تمكن المجاهدون من تنظيم صفوفهم خلف الدكتور عبد الله فستتزايد فرص فوزه كثيرا.

في هذه الأثناء على كرزاي إيجاد مرشح لمنصب نائب الرئيس ليحل محل فهيم، ولا بد من أن يكون طاجيكيا، لكن السواد الأعظم من القيادات والزعامات الطاجيكية تقف اليوم مع عبد الله.

على امتداد خمس سنوات، بين 2004 و2009، لم يمارس فهيم أي دور رسمي فعلي، بل فضل البقاء في بيته. وعندما انتخب كرزاي لأول مرة فإنه سرعان ما تخلى عن فهيم. وإبان وجود الحكومة المؤقتة كان فهيم يشغل منصب وزير الدفاع بجانب منصب نائب الرئيس، وكان كرزاي قد منحه لقب «مشير» تقديرا لبسالته وخدماته الجليلة للبلاد.

إنني أتذكر تلك الأيام المتوترة بعد انتخابات 2004 عندما أخذ المراقبون يتساءلون عن كيفية رد فهيم على تخلي الرئيس عنه.

أتذكر كيف كانت الهليكوبترات تحوم فوق بيته في كابل وكان كل الحي تحت مراقبة عسكرية مشددة، تخوفا من إقدامه على تنظيم انقلاب على كرزاي وحكومته.

بعد بضعة أشهر زرته في بيته. كان يومذاك مرتاحا ومسترخيا يعتني بحديقته وأزهارها. ولدى وصولي أخذني إليه قريب له، فحياني بلطف وحرارة ودعاني للسير معه لمشاهدة الورد في الحديقة.

عندها سألته بحذر ولطف عن تلك الأيام المتوترة عن الكلام عن سعيه لقيادة انقلاب.. ولماذا لم يفعل؟ فقال مبتسما: «إن الصحافيين يحبون كتابة روايات، والأجانب لا يعرفونني جديدا. أنا لست شخصا يدمر ما يصنعه أو يرعاه. أنا لا أقتلع مثل هذه الزهور التي زرعت... هل تدمرين حديقة اعتنيت بها إذا كنت غاضبة؟». وأردف: «لا... أنا لا أفعل ذلك. شعبي بحاجة إلى السلام والاستقرار. لو كانت المسألة تتعلق بي شخصيا ما كنت أود إلا الانصراف إلى الاعتناء بحديقتي طوال حياتي».