حيوية الخليج.. قلق الثقافة لا السياسة!

TT

قبيل افتتاح معرض الرياض للكتب صباح الرابع من مارس (آذار)، بقي على زمن الافتتاح ست ساعات، على جهة بوابات الخدمات عشرات الشاحنات، واحدة تدخل، وأخرى تخرج. لا تخطئ العين كمية الطرود التي ينزلها الناشر إلى مستودعه، ومن ثم إلى جناحه، تتساءل: أكتب هذه؟! متوسط الطرود التي تجيء بها دار النشر الواحدة 600 طرد، وبينما يهمّ الوزير بافتتاح المعرض في الساعة الثامنة مساءً من اليوم نفسه، تنطلق قوى الأمن وجميع تجهيزات الإسعاف والدفاع المدني لتأخذ أماكنها في المساحات المحيطة، هذا هو معرض الرياض الدولي للكتاب، الذي يكون حديثاً دائماً وموضع جلبةٍ مستمرةٍ منذ عقدٍ كاملٍ من الزمن، منذ أن تحوّل إلى معرضٍ حقيقي يستوعب كل الكتب بأصنافها وأنواعها، سواء فسحت أم لم تفسح، أياً كان موضوعها، ولا يمنع إلا ما يثير الدم، وينشط الانفصال عن الوطن، ويعزز من تبيئة أرض لتفريخ الخلايا الإرهابية أو الإخوانية المسيّسة، الأمر الذي يستدعي التدخل لوقف مثل تلك الكتب التي تحض على الإجرام لا على الفردانية، والاستقلالية، وحرية الفكر، وشحذ الذهن، بصنوف الأدب، وشذرات الحكم، والمشيّد من النظريات الفلسفية والعلمية، أو العلوم الطبيعية الثرية.

ثمة فئات يسوؤها مثل هذا المعرض، ذلك أنه نشاط مدني محايد، ليس ملكاً لأحد، فبينما تسير على المكتبات التراثية ودور نشر الحديث وصنوف الفقه، تعثر على دور لكتب الأطفال، وأخرى للفلسفة والأدب والرواية، وثالثة للقانون، بالإضافة إلى دور نشر التاريخ وتاريخ المجتمعات، فالمعرض ليس موجّهاً ضد أحد. ومهما كان التنظيم سيئاً أو حسناً فإن المجتمع السعودي مجتمع غليانٍ بطبعه، فهو قادر على شحذ الأنشطة والمشاركة فيها، الفرد السعودي كائن مشارك، سواء سلباً أو إيجاباً. العجيب أن بعض الأصوليين المتطرفين طالبوا بعدم الذهاب إلى المعرض إلا بولي الأمر، والبعض الآخر يحذر من الكتب التي تعنى بالفكر والسؤال، بينما يسوّق الأصولي إلى كتبه التحريضية الداعية إلى الانفصال والثورة، وحسناً فعلت إدارة المعرض بوقف أصوليين من العبث، أو توجيه الفوضى داخل المعرض.

في الخليج تتكوّن المعارض من المجتمعات، منشغلةً بقضاياه وأزماته، ولو تأملنا في معارض الشارقة، أبوظبي، البحرين، مسقط، الرياض، لوجدنا أنها مهرجانات لاستعراض القضايا الإشكالية، فهي معارض مشحونة بالندوات والأسئلة والقلق، ومع أفول شعارات الحرية والديمقراطية والثورة، وانتهائها وفقدانها صلاحيتها خليجياً عادت أسئلة التنمية، والعمل الإداري، والتطوير الزراعي، وشح المياه، وغيرها من المسائل الراهنة والحقيقية، على عكس المسائل المدمّرة والتي لا تهم الخليجيين، وعلى رأسها مفهوم الديمقراطية الذي لا يمكن أن يشتغل في ظلّ هذا المناخ الثقافي المختلف والمبني على القبيلة، والتفويض المجتمعي للسياسي، كل ذلك الهياج حول الحقوق والثورة وسواها انتهى، وهذا ما تدلل عليه المعارض التي هي أدوات قياس لأي مجتمعٍ تقام فيه.

إشارة التحول في الخليج هي هذا التحول من المناقشات السريعة العامة، والمطالبات الساذجة ببعض الأمور، إلى القراءة في تعقيدات موضوعات التغيير، لا يكفي لمن يريد أن يغير أن يدّعي القدرة على استيعاب النقد، لهذا نقرأ الاتجاه نحو المؤلفات التي تنتقد الثورات العمياء، أو تنتقد دعاوى التغيير الأصولي. في الرياض زال الغليان السياسي الطارئ، ليبدأ النقاش الفكري، وبخاصة بعد الهزائم المتكررة للتطرف، بعد أن تناوب بعض الأصوليين على تجريب الفشل في كل أنحاء العالم.

قوة معرض الرياض ليست في منظّميه، ولا في الجهات التي تديره، بل قوته في غليانه، ضمن مناخٍ سعودي شاب، إذ يحتضن زهرة عمر هذا البلد، بجيلٍ شاب، يتجه نحو المستقبل، لقد كان متوقعا أن يزور هذا المعرض ثلاثة ملايين زائر، وأن يبيع بخمسين مليون ريال، معرض الرياض هو شكل الرياض، هو شكل المجتمع السعودي وشيفرته، ذلك أنه مجتمع حيّ، يبحث عن آفاقه بنفسه، عبر رؤيته الخاصة من دون وصايةٍ أصولية أو هيمنةٍ إرهابية.

القلق ثقافي ومعرفي، وليس سياسياً كما تدعي أيقونات الناشطين، ورسائل بعض الأصوليين.

* كاتب وباحث سعودي