مع من يقف عمدة لندن؟

TT

في خطوة مثيرة للجدل، كتب بوريس جونسون، عمدة مدينة لندن، مقالة في «التلغراف» البريطانية يدعو إلى إنقاذ أبناء الأسر المسلمة من آبائهم المتشددين دينيا، بحيث يوكل أمر رعايتهم إلى المراكز الاجتماعية أسوة بالأطفال الذي يتعرضون للعنف أو التحرش الجنسي.

جونسون يأمل أن تمنحه السلطات الحق القانوني لتنفيذ ذلك، لأنه يرى أن الأهالي المتشددين ينقلون لأطفالهم عدوى التطرف التي تنتهي بقتل النفس بحزام ناسف أو قتل الآخرين، كما حصل مع الجندي البريطاني الذي مات مذبوحا من شخص مسلم العام الماضي.

العمدة يرى أن القائمين على الرعاية الاجتماعية يحجمون عن التدخل في مثل هذه الحالات حتى لو تأكد لهم أن الأطفال يتربون داخل بيوتهم على الفكر المتشدد، لأن القانون لا يمنحهم حق التدخل والحماية كما هو الحال في قضايا ضرب الأطفال أو التحرش وسوء المعاملة.

هذا رأي عمدة عاصمة الديمقراطية في العالم، فما هو رأينا نحن؟

لنتغاض عن كون هذا الموقف صدر من أقوى مرشح لرئاسة الوزراء عن حزب المحافظين، وأن رأيه حول الأقلية المسلمة التي تشكل عشرة في المائة من سكان مدينته كان ضمن أجندته الانتخابية. بعيدا عن هذه القشور، هل كنا لنتفق أم نختلف مع حق تدخل السلطات لحماية الأطفال من ذويهم المنحرفين فكريا أو جنسيا أو سلوكيا؟ وهل تتساوى الإساءات وبعضها في نظر القانون؟

في الغرب، لا يجرؤ الأب المسلم على ضرب طفله علانية، أو حتى توبيخه، لأن القانون يجرم هذا الفعل، وقد ينتزع منه طفله حتى يثبت لهم أنه كفؤ لرعايته. وأذكر في هذا الصدد أن زميلة حكت لي أنها أرادت معاقبة طفلها وكانت معه في حديقة عامة في مدينة أميركية، فتلفتت يمنة ويسرة حتى تأكدت أن لا أحد يلحظها، ثم انحنت وقرصت كف ابنها، بكى الطفل بصوت مرتفع، لكن لا أحد رأى الأم وهي تعتدي عليه. بطبيعة الحال لا نجد مثل ذلك في المجتمعات العربية أو المسلمة، بل قد يتكرر مشهد أم تصفع ابنتها في سوق، أو أب يضرب طفله في الشارع ضربا موجعا، ولا يملك أحد التدخل لا السلطات ولا غيرها.

عمدة لندن يجد نفسه مكبلا أمام حالة ترعرع الأطفال والمراهقين تحت رعاية ذويهم المتشددين، هو يعلم أنهم قنابل موقوتة، كالوحوش التي تتربى لتكبر وتخرج لتفترس الناس، ولكنه عاجز عن أي تصرف لأن القانون لا يسانده، وهو هنا ينادي بسن قوانين تساوي ما بين العنف والتحرش ضد الأطفال، وبين تنشئتهم على الفكر المتطرف.

المسألة ثقافية، وبالتالي أكثر تعقيدا من صفعة أو تحرش، فما يراه عمدة لندن أفكارا متطرفة، قد يراها الأب المسلم المتشدد من صميم معتقداته ولا يقبل المساس بها. وهذا الأمر حقيقي ونعيشه في عالمنا الإسلامي. بكل بساطة قد تنزل للشارع في باكستان أو اليمن أو مصر أو المغرب، وتستمع لرأي مراهق أو طفل وهو يتحدث عن وجوب معاداة الكفار، وأن الموت في سبيل قتلهم طريق مضمون للجنة. هؤلاء يعيشون بيننا ونستمع لهم كل يوم في الشارع والتلفزيون، ثم نمضي لشؤوننا وكأن شيئا لم يكن، إنما في الغرب ينظرون لمثل هذا الكلام على أنه إدانة لوالديه وأسرته التي صنعت منه متشددا ومشروع إرهابي.

في مسلسل «الباطنية» الشهير، لعب الفنان صلاح السعدني دور «الحاج إبراهيم العقاد» تاجر الحشيش، وهو رجل متدين، سبق أن حج بيت الله، لكنه مؤمن إيمانا قاطعا أن تجارة الحشيش حلال، لأنه ليس مخدرا، بل علاج يسعد الناس ويبهجهم ولا يضرهم عكس الهيروين والكوكايين، وكان يردد أن على الحكومة أن تلاحق تجارة الخمور المذكور تحريمها نصا في القرآن، بدل أن تلاحق تجار الحشيش. كانت نهاية العقاد مريعة، فقد خسر أغلى إنسان لديه، وهو حفيده، بسبب بودرة حشيش، أي أن سلاحه ارتد عليه، فأعلن توبته التي جاءت متأخرة بعد أن أدرك أنه كان يربي ولده وحفيده على المتاجرة بالنبتة الشيطانية. «العقاد» تاجر الحشيش نموذج للأب الضال، الذي ضلل أبناءه بسبب معتقداته الشخصية، وأوردهم سبيل التهلكة تماما مثلما يفعل الأب الراديكالي.

عمدة لندن يخشى على مدينته من مثل هؤلاء، يرى أن نتيجة السكوت عن أخطاء الأسر المتشددة في حق أبنائها، سيجعلهم ضحايا ويعرض أمن المجتمع اللندني للخطر. معه حق، إنما مأخذنا الوحيد عليه أن حرية التعبير والرأي التي هي قيمة من قيم المجتمع البريطاني، أتاحت للمتطرفين والمحرضين على الكره والقتل أن يرفعوا أصواتهم عاليا، ليس داخل البيوت المسلمة فحسب، بل في الميادين والحدائق العامة في لندن، رغم علم السلطات البريطانية بأنهم شخصيات متطرفة فرت من بلادها هربا من المحاسبة القضائية. لذلك يبدو من غير المعقول أن تقبل لندن أن تنام مع الأعداء وتحاسبهم في الصباح، حول ما يتهامسون به على مائدة الإفطار.

أما نحن في العالم الإسلامي فعلينا أن نخاف أكثر، لأن أطفالنا في حال أسوأ، فهم لا يزالون يتعرضون للضرب المؤدي للقتل، ويجري التحرش بهم بصمت، يقابل ذلك قوانين هشة لا تحميهم، بل إن بعض المحاكم لا ترى غضاضة في أن يضرب الأب ابنه ضربا مبرحا، وبعض حالات الموت التي حصلت جراء ذلك، قوبلت بهدوء وبعقوبات مخففة، ناهيك عن غياب مراكز رعاية تليق باحتضان طفل تعرض للإيذاء وبحاجة ماسة لرعاية خاصة.

إنها ثقافة المجتمعات التي تختلف في مدى تقديرها واحترامها لحقوق الإنسان؛ فمن ناحية، هناك مجتمع ينظر إلى قرصة على كف طفل على أنها جريمة، ومجتمع آخر يلقن أبناءه كره الثقافات المختلفة، ثم يرمي بهم في براثن النزاعات المسلحة طلبا للشهادة المزعومة، وبين هاتين الحالتين مساحة واسعة من أطفال مهيئين ليكونوا أفرادا متطرفين داخل مجتمع يتقبلهم ويرحب بهم.

الفرق بين لندن وبين المدن الإسلامية أن المسلمين فيها أقلية، يفترض ألا يتمادوا في أخطائهم؛ لأن المجتمع هناك لن يقبلها كما نقبلها نحن، ولأن السلطات البريطانية ليست مجبرة على ابتلاع ثقافتهم المسمومة.

لينم عمدة لندن قرير العين، فرغم تفهمنا لموقفه، وموافقتنا عليه، فإن أسباب قلقه لا تعدو كونها شعرة في جلد ثورنا.

[email protected]