مناورات الإمارات.. توجه استراتيجي

TT

ربما هي المرة الأولى التي يقيم فيها الجيش المصري، بهذا الحجم بكل أفرع قواته البرية والجوية والبحرية والقوات الخاصة، مناورات عسكرية خارج الحدود يحضرها القائد العام للقوات المسلحة المشير عبد الفتاح السيسي ومعه الفريق أول محمد بن زايد ممثلا الدولة المضيفة التي تجري المناورات (زايد 1) على أرضها وهي الإمارات العربية المتحدة. وكانت مصر في السابق تقوم بمناورات خارجية محدودة من نوعية المشاركة بكتيبة أو سرية كنوع من المشاركة الرمزية، أما المناورة الأخيرة فتمثلت فيها كل الأفرع. فما معنى ذلك لمصر وللخليج؟ هل هو توجه استراتيجي جديد للمرحلة القادمة أم أن المشير السيسي يريد أن يضع بصمته الأخيرة، وهو يرتدي الزي العسكري على شراكة استراتيجية بين مصر ودول الخليج العربي الرئيسة قبل أن يخلع الزي العسكري، ويصبح مرشحا لرئاسة مصر؟ لافت للنظر الصورة التي ظهرت في ختام المناورات، فمن المفهوم أن قادة الجيوش المشاركة في المناورة متمثلة في المشير السيسي والفريق أول محمد بن زايد، لكن الجديد هو وجود الأمير سلمان بن سلطان بن عبد العزيز نائب وزير الدفاع السعودي في الصورة، رغم أن المعلن والمعروف أن السعودية لم تشارك بقوات في هذه المناورة، فهل وجود نائب وزير الدفاع السعودي في الصورة، يعني أننا نتحدث عن قيادات لمثلث استراتيجي جديد؟ من هنا أرجح أن الأمر ليس رمزيا بقدر ما هو رسالة لا تقبل الشك أننا أمام توجه استراتيجي جديد لأمن الخليج نواته عربية، ولبه وقلبه هو هذا المثلث المتمثل في مصر والسعودية والإمارات. بلورة فعلية ومن خلال مناورات عسكرية عملية شاركت فيها طائرات إف 16 والميراج من الدولتين المشاركتين، وقطع بحرية وعمليات إنزال إلى آخر رمزيات الجدية التي توحي بأن المثلث الاستراتيجي الجديد الذي كتبت عنه في هذه الصحيفة منذ شهور لم يعد مجرد مفهوم نظري، بل تتم ترجمته بشكل عملياتي على الأرض والبحر والجو. ربما لم تشترك السعودية بقوات، ولكن وجود نائب وزير الدفاع السعودي يؤكد بلورة المفهوم وأن المناورات القادمة ستكون حتما ثلاثية.

اسم المناورات فيه دلالة لا تخفى على المراقب البسيط، عندما نقول «زايد 1» فمعنى ذلك أن هناك «زايد 2» و«زايد 3» إلى آخره. أي أننا أمام شراكة واضحة، وأن المملكة ومعها مصر أيضا تحتفلان باسم مؤسس الإمارات العربية المتحدة لما له من إسهامات عظيمة في دعم التضامن العربي بكل أشكاله، وإننا أمام ثلاث دول ناضجة في التوجه والرؤية دونما الالتفات لنقائص الصغار وحساسياتهم.

المناورات المصرية الإماراتية فيها دعم حقيقي لمصر، وفيها أيضا تصور جديد لأمن الخليج يأخذ الدور الإقليمي المصري في الاعتبار؛ فمنذ إعلان دمشق في التاسع من مارس (آذار) عام 1991 هناك حوار متقطع حول دور مصري في أمن الخليج، يبدو أنه يتبلور الآن نتيجة لتهديدات أمنية داخلية وخارجية جديدة لمصر وللخليج العربي في ذات الوقت.

بداية لماذا مصر في الخليج؟ مصر بشكل أو بآخر يمكن اعتبارها دولة خليجية أو شريكة في أمن واستقرار الخليج. فلمصر مثلا أطول سواحل مع المملكة العربية السعودية، ومصر كخزان بشري تعتبر العمق الاستراتيجي لأمن دول الخليج العربي. يتجاوز عدد المصريين في الخليج اليوم ثلاثة ملايين مواطن مصري يعيشون وأسرهم في دول الخليج العربي، منهم مليونان في السعودية وحدها. والمليون الآخر أو أكثر موزع بين الكويت والإمارات وبقية الدول العربية الخليجية. هذا العدد من البشر يساوي تعداد واحدة من الدول الأصغر أو أحيانا أكثر. وتصالح أهل الخليج مع هذا الوجود المصري الكثيف ناتج عن أن المصري يرى أن دول الخليج هي بلاده ونادرا ما يكون المصري سببا في مشاكل داخلية في هذه الدول بالطبع، باستثناء جماعة الإخوان التي تنتمي لتنظيم دولي عابر للحدود أكثر من انتمائها للوطنية المصرية.

المناورات العسكرية والشركات الاستراتيجية لا تبنى بالطبع على أمور عاطفية؛ فلدول المثلث: مصر والسعودية والإمارات، مصالحها الخاصة ورؤيتها الخاصة لأمنها القومي. ولكن هناك مشتركات بين أمن هذه الدول من حيث التهديدات الجديدة وطبيعتها. فهذه الدول الثلاث تعاني من تهديد داخلي متمثل في تنظيم الإخوان المسلمين الذي كشف عن نفسه كجماعات عنفية تخريبية. إضافة إلى أن الدول الثلاث أيضا قلقة من الدور الذي يلعبه جوار غير عربي عدواني متمثل في إسرائيل وإيران وتركيا. حيث تعربد إيران مثلا في منطقة الخليج وفي محيط الأمن القومي الخليجي بشكل مقلق ليس لدول الخليج وحدها، وإنما للدول العربية مجتمعة باستثناءات قليلة جدا.

إن هذا التوجه الاستراتيجي فيه ذكاء ومفيد لكل الأطراف. فهو مفيد للإمارات ولمصر على المدى القريب والبعيد. فمثلا وجود مثل هذا سيخفف الضغط على مصر من قبل القوى الغربية من خلال تغيير طبيعة الحوار الاستراتيجي، فبدلا من أن تتحدث أميركا في مصر في الشأن الداخلي المصري سيتحول هذا الحوار إلى الدور المصري الإقليمي وماذا تفعل في الخليج؟ إيران أيضا ستفهم الرسالة من خلال وجود أو شراكة مصرية خليجية في أمن الخليج. فالأمر ليس وجودا غربيا بعيدا في الخليج يعتمد على أساطيل تروح وتجيء، وإنما الأمر مرتبط بوجود قوات عربية قريبة وقوية ذات قيمة عددية عالية وكفاءة قتالية عالية أيضا.

وحتى لا تأخذنا الرومانسية، لا بد وأن نراجع دور الجيش المصري خارج الحدود وفي الخليج تحديدا. تدخلات الجيش المصري في منطقة الخليج في معظمه كان تدخلا حميدا. سواء عندما قرر جمال عبد الناصر أن يكبح جماح جيش عبد الكريم قاسم من دخول الكويت عام 1962 أو في مشاركة الجيش المصري في عاصفة الصحراء وعملية تحرير الكويت عام 1991. ما يأخذه البعض على التدخلات المصرية هو تدخل عبد الناصر في اليمن. ولكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن عبد الناصر نفسه راجع تلك الفترة، وخصوصا بعد مؤتمر اللاءات الثلاث في الخرطوم، وأن علاقته بالملك فيصل بعد ذلك أخذت شكلا آخر، وموقف المملكة العربية السعودية مع مصر في حرب 1973 كان مبنيا على تفاهم استراتيجي جديد بين عبد الناصر وفيصل بعد الخرطوم. إذن هذه النقطة تمت مراجعتها وتجاوزها استراتيجيا وتاريخيا.

وجود المشير السيسي في الإمارات، في ختام مناورات ضخمة بين الدولتين في وجود نائب وزير الدفاع السعودي بما يحمل من رمزية وجود المملكة، فيه إشارتان؛ الأولى تخص السيسي كرئيس محتمل لمصر يضع لمساته وبصمته الأخيرة على شراكة استراتيجية جديدة. والثانية بزوغ مثلث استراتيجي جديد في المنطقة متمثل في مصر والسعودية والإمارات. مثلث ليس على مستوى مفهوم عسكري نظري، وإنما يتحرك في إطار تنسيق عملياتي بين القوات interoperability تجعل هذه القوة الجديدة محل اعتبار حقيقي لكل طامع في أي تهديد لأمن الخليج.