ماغنا كارتا الإنترنت

TT

بقدر حجم المأساة والأسف لمصير طائرة الركاب الماليزية المختفية، فإن جزءا كبيرا من اللغز الكبير الذي يحير العالم في قضية الطائرة المختفية منذ أكثر من أسبوع تقريبا دون أي أثر لها أو لركابها، هو أنه لا أحد يستطيع أن يصدق أنه في هذا العصر الذي تراقب فيه الرادارات والأقمار الصناعية والكاميرات كل شيء تقريبا على مدار الساعة، يمكن أن تختفي طائرة بهذا الحجم مع ركابها بعد إقلاعها بقليل، وتواصل الطيران في اتجاه مجهول حسب المعلومات التي تعلن، دون أن يتمكن أحد من التأكد مما حدث ولو على سبيل التخمين.

في أزمان سابقة كانت مآسٍ كثيرة أو كوارث تحدث دون أن يعرف أحد السبب أو المصير، لكن في عالم اليوم أصبح حق المعرفة جزءا أساسيا من الأشياء المسلم بها، على اعتبار أن المعرفة تشرح الأسباب، وتجعل المجتمعات الإنسانية تتحوط مستقبلا لمثل هذه الكوارث، أو تتخذ الاحتياطات المناسبة لتجنب حدوثها مرة أخرى، ذلك فضلا عن أن الفضول الإنساني أصبح أكبر من أي وقت مضى.

ولعبت شبكة المعلوماتية أو الإنترنت، التي يبلغ عمرها نحو 25 عاما فقط، دورا هائلا في إحداث ثورة غير مسبوقة في نقل المعرفة والمعلومات بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري، وازدهرت أعمال بعشرات أو بمئات التريليونات من الدولارات التي وفرها هذا الوسيط الذي اخترعه البريطاني السير تيم برناردز لي، وأصبحت شبكات الاتصالات والأعمال، خلاف أقل من ربع قرن، ترتبط بهذا الاختراع الذي هو في حقيقة الأمر خلق عالما موازيا نعيش فيه، بجانب العالم الواقعي الحقيقي المادي الذي نلمسه ونتنفسه.

وككل شيء عندما يتطور ويتعقد، فإنه لا بد أن تظهر على جانبه عمليات استغلال سلبي، فكما وفرت هذه الشبكة فرصا هائلة للمعرفة الإنسانية والاتصالات وعمليات التجارة بين قارات العالم، فإن شبكات الإجرام، والإرهاب، والقرصنة، وجدت أيضا منفذا تستطيع أن تمارس منه شرورها بشكل أكبر، وغير مسبوق أيضا من قبل، وهو ما أثار بطبيعة الحال اهتمام أجهزة تطبيق القانون ومكافحة الجريمة على امتداد العالم، فبدأت هي الأخرى تخترع أدواتها للمراقبة على الشبكة التي أصبح يستخدمها مليارات من البشر، وهي نفسها أصبحت عرضة للاختراق من داخلها بسبب هذا العالم الإلكتروني كما ظهر في حالتي تسريبات «ويكيليكس»، وسنودن، فلو لم تكن هذه الشبكة الإنترنتية موجودة والتي تنقل المعلومات بضغطة زر، لاحتاج تسريب مثل هذه الكم أسطولا من الشاحنات لنقله، هذا لو تمكن أحد من تهريبه دون أن يلحظه أحد. لكن هذه التسريبات التي خرجت أظهرت شيئا كان الجميع يعرفه أو يدرك أنه موجود لكنه لم يعرف أنه موجود بهذا الحجم، وهو أن كل شيء تحت المراقبة، وأنه في أحيان تتوسع هذه العمليات لتحدث التوازن المطلوب بين مكافحة الأنشطة الإجرامية وشعور الناس بالثقة في أن خصوصياتهم لن تكون مشاعا، فهذا التوازن له أهمية خاصة لأن استخدام الشبكة يعتمد على عامل الثقة.

ولعل القلق من عدم التوازن هو الذي دعا السير برناردز لي الأسبوع الماضي إلى الخروج بالدعوة إلى ماغنا كارتا عالمية لشبكة الإنترنت لحماية استقلال هذا الوسيط المعلوماتي (الإنترنت) للحفاظ على طبيعته المفتوحة وحياديته، وذلك على غرار الماغنا كارتا الإنجليزية في القرن الثاني عشر، والتي توصف بأنها أول وثيقة حقوق سياسية في العالم.

ولا بد أن الظواهر السلبية التي صاحبت اختراق خصوصيات الشبكة في السنوات الأخيرة أثارت قلق مخترع المشروع، لكن أيضا الظاهرة الإنترنتية لا تزال في طور التطور والتحول، فضلا عن أن عالميتها تجعل الوصول إلى اتفاق عالمي حولها أمرا شديد الصعوبة في ضوء اختلاف السياسات والثقافات، والمحظورات من مجتمع إلى آخر، لكن هذا لا يمنع من أن يكون هناك حوار عالمي حول الطريقة التي يريد أن يدير بها العالم هذه الشبكة بما يحفظ أمن الأفراد وأمن المجتمعات في الوقت نفسه.