تصاعد وتيرة المعاداة للرأسمالية

TT

بدأنا نشهد مفارقة في صميم الرأسمالية، فما أدى إلى تعزيزها وعلو شأنها يتسبب الآن في تهديد مستقبلها، حيث إن الديناميكية المتأصلة للأسواق المنافسة تعمل على تخفيض التكاليف حتى الآن، لنجد أن الكثير من البضائع والخدمات تصير مجانية تقريبا ومتوافرة بكثرة ولم تعد خاضعة لعوامل قوى السوق. وفي حين أن علماء الاقتصاد يرحبون دائما بتقليل التكلفة الهامشية، فإنهم لم يتوقعوا على الإطلاق احتمال حدوث ثورة تكنولوجية قد تتسبب في تخفيض هذه التكاليف إلى مستوى الصفر تقريبا.

وجاء أول تلميح إلى هذه المفارقة في عام 1999 حينما قامت نابستر، أحد مقدمي خدمات الموسيقى، بتطوير شبكة عمل لتمكين ملايين الأشخاص من مشاركة الموسيقى دون سداد مبالغ للمنتجين والفنانين، مما تسبب في خسائر كبيرة في مجال صناعة الموسيقى. واستمرت ظواهر مماثلة في إحداث إزعاج على نحو خطير لمجالات نشر وطباعة الكتب والصحف. وبدأ المستخدمون في مشاركة ونشر معلوماتهم والأمور الترفيهية الخاصة بهم عبر المقاطع المصورة (الفيديوهات) والصوتية والنصية - بشكل مجاني تقريبا - من خلال تجنب الأسواق التقليدية بكل ما في الكلمة من معنى.

وقد أدى الانخفاض الهائل في التكلفة الهامشية إلى التسبب في حدوث صدمة لهذه المجالات والبدء الآن بإعادة تشكيل قطاعات الطاقة والتصنيع والتعليم. ورغم أن التكاليف الثابتة للتكنولوجيا الشمسية والرياح تعد مكلفة إلى حد ما، فإن تكلفة الحصول على كل وحدة من الطاقة تكون منخفضة، حتى إن هذه الظاهرة اخترقت قطاع التصنيع. ويقوم آلاف الهواة بالفعل بصناعة منتجاتهم باستخدام آلات طباعة ثلاثية الأبعاد وبرمجيات المصادر المفتوحة وإعادة تصنيع البلاستيك كمادة خام بتكلفة هامشية تصل إلى مستوى الصفر تقريبا. وفي هذه الأثناء، التحق أكثر من ستة ملايين طالب وطالبة بالدورات المجانية المفتوحة التي تضم أعدادا هائلة عبر الإنترنت، حيث يجري توزيع محتوى هذه الدورات بتكلفة هامشية تصل إلى الصفر تقريبا.

ويعترف المراقبون في قطاع الصناعة بالحقيقة المتنامية بوجود اقتصاد ذي تكلفة هامشية عند مستوى الصفر، ولكنهم يزعمون أن المنتجات والخدمات المجانية ستعمل على استقطاب عدد كاف من المستهلكين لشراء منتجات متطورة وخدمات متخصصة، مع ضمان تحقيق هوامش ربح كبيرة بالدرجة الكافية بما يسمح للأسواق الرأسمالية بمواصلة النمو. بيد أن عدد الأشخاص المستعدين للسداد مقابل الخدمات والبضائع المتميزة الإضافية يعد عددا محدودا.

وفي الوقت الراهن، فإن هذه الظاهرة على وشك التأثير على الاقتصاد بأكمله. وتظهر تكنولوجيا جديدة وهائلة للبنية الأساسية - إنترنت الأشياء - مع احتمالية تحفيز الحياة الاقتصادية بشكل أكبر لوجود تكلفة هامشية تقترب من مستوى الصفر على مدار العقدين المقبلين. وتبدأ منصة هذه التكنولوجيا الجديدة في تحقيق الاتصال بين كل شيء وكل شخص. والآن، يوجد أكثر من 11 مليار جهاز كشف على اتصال بالموارد الطبيعية وخطوط الإنتاج وشبكة الكهرباء وشبكات العمل اللوجيستية وتدفق عملية إعادة التصنيع وغرس هذه الأمور في البيوت والمكاتب والمتاجر والمركبات وتغذية نموذج «إنترنت الأشياء» بالكثير من البيانات. وبحلول عام 2020، من المتوقع أن يكون هناك 50 مليار جهاز كشف - على أقل تقدير - متصلا بهذه التقنية.

ويمكن للأشخاص أن يتصلوا بالشبكة واستخدام هذا الكم الكبير من البيانات والتحليلات والحلول الحسابية لتسريع عملية الكفاءة وتقليل التكلفة الهامشية للإنتاج ومشاركة ونشر المنتجات والخدمات على نطاق واسع بما يقترب من مستوى الصفر، مثلما يفعلون الآن مع البضائع المرتبطة بالمعلومات. فعلى سبيل المثال، هناك 37 مليون مبنى في الولايات المتحدة مجهزة بوحدات القياس وأجهزة الكشف المتصلة بـ«إنترنت الأشياء»، مع توفير المعلومات المتعلقة بالزمن الحقيقي فيما يخص الاستخدام والأسعار المتغيرة للكهرباء لشبكة الإرسال. وسيؤدي هذا الأمر في نهاية المطاف إلى السماح للأسر والشركات - التي تقوم بإنتاج وتخزين الكهرباء الخضراء في الموقع، من التركيبات الخاصة بالطاقة الشمسية والرياح إلى برنامج البرمجيات - بالتخلص من هذه الأشياء بعيدا عن شبكة الكهرباء حينما تقفز الأسعار بشكل سريع حتى يتسنى لهم توفير الطاقة لمنشآتهم من خلال الكهرباء الخضراء الخاصة بهم ومشاركة الفائض مع جيرانهم بتكلفة هامشية تقترب من مستوى الصفر.

وتتوقع مؤسسة «سيسكو» أنه بحلول عام 2022 سترتفع مكاسب الإنتاجية - الناتجة عن «إنترنت الأشياء» – لتتجاوز 14 تريليون دولار. وتتوقع إحدى الدراسات الصادرة عن مؤسسة «جنرال إلكتريك» أنه يمكن أن تؤدي مكاسب الإنتاجية المحققة من خلال «إنترنت الأشياء» إلى التأثير في نصف الاقتصاد العالمي بحلول عام 2025.

والآن، فإن السؤال الذي يبحث عن إجابة ولم يجد حلا بعد هو: كيف سيعمل هذا الاقتصاد في المستقبل حينما يستطيع ملايين الأشخاص صنع ومشاركة البضائع والخدمات بشكل مجاني تقريبا؟ وتكمن الإجابة في المجتمع المدني الذي يتشكل من منظمات غير هادفة للربح التي تستهدف الأشياء التي نصنعها ونشاركها في الحياة كمجتمع. وزادت عائدات المنظمات غير الهادفة للربح لتصل إلى معدل قوي بمقدار 41 في المائة بعد التعديل بسبب التضخم – ففي خلال الفترة من عام 2000 إلى عام 2010، زاد الناتج المحلي الإجمالي بما يربو على الضعف، حيث زاد بنسبة 16.4 في المائة أثناء نفس الفترة. ففي عام 2012، وصلت نسبة القطاع غير الهادف للربح في الولايات المتحدة إلى 5.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.

إن ما يجعل القواسم الاجتماعية المشتركة أكثر صلة بالموضوع في الوقت الحالي، هو أننا نشكل بنية أساسية لـ«إنترنت الأشياء» بما يعمل على زيادة عملية التعاون والمشاركة والنفاذ الشامل والشمولية لتقترب من درجة الكمال، حيث تعد جميع هذه الأمور مهمة لتكوين رأس المال الاجتماعي والإرشاد والتوجيه نحو الاقتصاد التشاركي.

ويتعلق هذا الاتجاه التعاوني والتشاركي - أكثر من الرأسمالي – بالنفاذ المشترك بشكل أكثر من الملكية الخاصة. فعلى سبيل المثال، يوجد 1.7 مليون شخص على مستوى العالم أعضاء في خدمات تأجير السيارات. وأظهرت دراسة حديثة وجود انخفاض في عدد المركبات المملوكة من قبل المشاركين في تأجير السيارات بمقدار النصف بعد الاتصال بهذه الخدمة، مع وجود الأعضاء الذين يفضلون الوصول عن طريق تملك المركبات. ويستخدم ملايين الأشخاص مواقع التواصل الاجتماعي وشبكات إعادة التوزيع وقيمة الإيجار والجمعيات التعاونية للمشاركة، ليس في مجال السيارات فحسب، ولكن أيضا في قطاع المنازل والملابس والمعدات واللعب والأشياء الأخرى بتكلفة هامشية منخفضة أو بتكلفة تقترب من مستوى الصفر. والجدير بالذكر أن الاقتصاد التشاركي قد حقق عائدات بقيمة 3.5 مليار دولار أميركي في عام 2013.

* مؤلف كتاب «مجتمع التكلفة الهامشية التي تصل إلى مستوى الصفر»

* خدمة «نيويورك تايمز»