روحاني.. الشريك المزعج

TT

يقول أحد السياسيين الإيرانيين من الذين قرروا اعتزال العمل السياسي مبكرا قبل أن يصل عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي إلى نهايته، إن المشهد السياسي الذي تعيشه إيران في المرحلة الحالية يمكن اعتباره مسارا تغييريا يصل إلى حد القول بأنه تأسيسي، وقد يكون أكثر عمقا من السنوات الماضية التي كان فيها خاتمي على رأس السلطة التنفيذية ممثلا لمرحلة الإصلاحات من وفي داخل نظام الجمهورية الإسلامية.

ومن دون إغفال ما للمرحلة الخاتمية من دور في وضع قطار النظام على سكة التغيير، يضيف هذا السياسي أن ما يميز الرئيس الجديد الشيخ حسن روحاني عن خاتمي أنه تولى السلطة خلفا لمحمود أحمدي نجاد، وعلى الرغم مما في ذلك من مصاعب ومتاعب، فإن ما أسهمت مرحلة أحمدي نجاد في تخريبه والتفريط فيه ساعد روحاني على أن يتحول إلى منقذ للنظام من الوهن والإعياء الاجتماعي والفكري والاقتصادي والسياسي الذي أصيب به جراء الأعمال التي قام بها أحمدي نجاد وفريقه والتي بدأت آثارها تظهر بالتدريج السريع، على العكس من خاتمي الذي تولى الرئاسة بعد مرحلة من إعادة البناء والانفتاح الداخلي والدولي بقيادة أحد أبرز أعمدة النظام الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الذي أسس لوصول خاتمي ومهد له الطريق.

يضاف إلى ذلك، ما يتحلى به روحاني من إصرار على التصدي وعدم الانسحاب وسعيه الدائم للوصول إلى نقطة وسط بين ما يريده وما تسعى إلى فرضه القوى المسيطرة على كواليس القرار في النظام، من دون أي إحساس بضرورة الاستعجال إلا فيما يتعلق بالقرارات والمسائل التي تمس أمن الناس الاقتصادي والاجتماعي.

وللتدليل على لعبة تقسيم الأدوار لدى روحاني وليس الأولويات، يمكن التوقف عند التفاصيل التي رافقت وسبقت اللقاء التلفزيوني الذي أجراه روحاني مع مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الرسمية والجدل الذي دار بينه وبين رئيس هذه المؤسسة الجنرال عزت الله ضرغامي الآتي من مؤسسة حرس الثورة وعلاقة عميقة مع مؤسسة «بيت المرشد» ولا يبتعد عن القوى المتشددة التي رأت في وصول روحاني ضربة لها ولطموحاتها بالسيطرة على النظام.

الأزمة بين الرجلين تفجرت بعد أن حاول ضرغامي الذي يعد عضوا مستمعا في الحكومة إلى جانب رئيس بلدية العاصمة طهران الجنرال محمد باقر قاليباف، وضع شروط على الرئيس روحاني مقابل السماح بإجراء اللقاء المباشر معه الذي كان مخصصا للحديث حول الإنجازات التي استطاعت حكومته تحقيقها في الأشهر الستة الأولى على توليه السلطة.

روحاني لم يستسلم لشروط ضرغامي التي كان الهدف من ورائها دفعه إلى إلغاء اللقاء، لكن إصرار روحاني على رفض أي شرط يحدد المواضيع التي سيتطرق إليها اللقاء أو يرغب روحاني في الحديث عنها، ومن ثم التهديد بتصعيد الموقف والخلاف وإدخال المرشد في جزئياته - سمح له بأن يفرض توازنا يمكن أن يحسب له عندما طلب مشاركة صحافية تمثل الرئاسة في الحوار إلى جانب المحاور الذي اختارته مؤسسة الإذاعة والتلفزيون لإجراء الحوار. التوقف عند هذا المثال يعود إلى دلالاته بالمقارنة مع رد فعل مفترض كان من الممكن أن يلجأ إليه الرئيس محمد خاتمي.

أولا: أن روحاني أوصل رسالة إلى الجناح المتشدد في التيار المحافظ وغير الراغب فيه بأنه صعب المراس ولا يمكن أن يستسلم بهذه السهولة تاركا الساحة لهؤلاء، وأن عليهم اعتياد وجوده متصديا لهم ولمخططاتهم.

ثانيا: أنه قد استبعد من تفكيره إمكانية التراجع في المسائل التي تتعلق بالصلاحيات الدستورية والسلطة التي حصل عليها بالشرعية الشعبية والتي حولها إلى سلاح يجرده عند أي منعطف يحاول فيه الآخرون جر الأمور إلى حيث يرغبون أو تفرضه مصالحهم.

ثالثا: أنه عندما قبِل الدخول في الانتخابات الرئاسية مع علمه بما فيها من «مطبات» قد يضعها الفريق الآخر لمنع أي مرشح من الوصول على حساب مرشحه، يعني أنه وافق على قبول التحدي والذهاب في المواجهة إلى نهاياتها المنطقية.

رابعا: بالمقارنة مع خاتمي الذي كان سيستسلم أمام أي شروط توضع أمامه أو في أفضل الأحوال يعلن انسحابه من المواجهة والتخلي عن أصل الموضوع، فإنه من غير الوارد لديه أو لا يمكن له أن ينسحب أو يتخلى عن موقفه ويحقق رغبة الطرف الآخر، لذلك فضل عدم الدخول في جدل مع المؤسسة ورئيسها انطلاقا من معرفته بقدرته وما يشكله من حاجة للنظام في هذه المرحلة الدقيقة والحرجة، بغض النظر عن مدى قدرة الطرف الآخر وحجم ارتباطه بالقوى المتحكمة في القرار، أو بتعبير آخر «الدولة العميقة» الإيرانية هذه المرة على غرار التجربة المصرية.

إن ما يعطي روحاني القدرة على المواجهة والتحدي يعود إلى تجربته الطويلة في النظام والتعامل مع مراكز القرار فيه ومعرفته بمواقع القوى التي تملك تأثيرا على مستقبل إيران، الأمر الذي يسمح له بالتصلب في مواقفه وفي وجه من يحاولون فرض رؤيتهم على السلطة التنفيذية التي يرأسها.

هذه الخصائص التي يتحلى بها روحاني في مواجهة الجناح المتشدد في التيار المحافظ تسمح له بأن يكون «شريكا مزعجا» لهؤلاء، على العكس من خاتمي، الذي بانسحاباته و«زعله» القريب والمتكرر أمام أي صعوبة أو أزمة تلوح في الأفق كان يسهم في تحقيق رغبات هؤلاء من دون أي عناء أو خوف من الدخول في مساومات معه.

قوة روحاني تكمن في أنه يعرف مراكز القرار ويدرك مدى قدرته، غير المبالغ فيها، على التصدي لها وعدم إخلاء الساحة أمامها. ويدرك أيضا الوضع الذي وصلت إليه الدولة في إيران من تراجع بسبب سياسات سلفه أحمدي نجاد غير المدروسة وغير المتوازنة، التي كانت أشد وطأة وقسوة على إيران والإيرانيين من العقوبات الدولية. وأنه تحول إلى خشبة خلاص هذا النظام من المخاطر التي تواجهه، وإلا فإن على هؤلاء المعرقلين أن يتحملوا مسؤولية انهيار النظام ومؤسسات الدولة أمام الضغوط التي تتعرض لها إيران داخليا وإقليميا ودوليا.

إن المرحلة الخاتمية شكلت نقلة نوعية في المجتمع الإيراني السياسي والمدني برفعها الصوت عاليا، وشكلت تعبيرا حقيقيا عن تيار فكري تبلور خارج الأطر المهيمنة على النظام رغم أنها لم تكن بعيدة عنه في كثير من الأحيان، وقدم هذا التوجه أو التيار نفسه شريكا ناجزا أو قيد الإنجاز لا يمكن تجاهله في المستقبل. لكن مرحلة روحاني، رغم قصر المدة التي مرت عليها، ستشكل الصدمة النوعية للنظام من داخله، وستكشف للعلن عن وجود جناحين داخل تيار النظام؛ واحد يمثل اتجاه الانغلاق ورفض أي تغيير في بنية النظام متسلحا بطبقة من العسكريين القدامى وأصحاب الثروات الجدد الذين تكاثروا كالفطريات التي نمت على مستنقعات مرحلة أحمدي نجاد. وآخر يرى أو يعتقد ضرورة الحفاظ على النظام وبقائه واستمراره، وأن هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تقديم التنازلات والتخفيف من القبضة الممسكة بالنظام، وضرورة الوصول إلى نقطة وسط مع التيار الإصلاحي تكون جسرا للعبور بالنظام إلى مرحلة التوازن بين مكوناته السياسية والفكرية، وتكون قادرة على تهذيب طموحات العسكريين وتقمع رغبات المتشددين.

آمال كثيرة معقودة على رئاسة روحاني داخليا وإقليميا ودوليا، فهل يكون قادرا على قيادة إيران في هذه المرحلة التي تحتشد فيها التحديات الداخلية بالقدر نفسه من التحديات الخارجية؟ سؤال يبدو من الصعب الإجابة عنه حاليا أو الحكم فيه، بقدر ما هو صعب الحكم أو التصديق بأن هذا السياسي قد قرر اعتزال السياسة والعمل السياسي.

*كاتب وصحافي لبناني