العراق إلى أين؟

TT

في مثل هذا اليوم قبل 22 شهرا، وخلال موجة تكتل سياسي غير مسبوق، ضم «الكيانات السياسية المتناقضة»، لمحاولة سحب الثقة من رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، كتبت مقالا بعنوان «المالكي باق وخصومه مختلفون». ففي تلك المرحلة، مرت حكومة المالكي بأصعب مراحلها، إلا أن السياسيين المتحمسين للفكرة لم تكن لهم الخبرة الكافية في فهم التوازنات والمواقف الدولية والإقليمية الرافضة لتحركهم، فضلا عن أن المالكي يعرف تماما كيف يخل بالنصاب من خلال قراءته لهوى النواب، خصوصا ممن يحملون ألوانا غير ثابتة، وهم كثيرون في السابق والحاضر والمستقبل. ولا أخفي شعوري بعدم الثقة في استقرار نفسية ومواقف معظم السياسيين، الذين حرصت على تسميتهم بـ«سياسيي الصدفة»، ويرفض العراقيون إعطاءهم صفة السياسيين أصلا.

مشكلة العراقيين الأولى هي في دستورهم، فرغم ما في الدستور من نقاط إيجابية كبيرة، فقد وزعت الصلاحيات - أو خيل لهم ذلك - بطريقة أضعفت سلطة الحكومة المركزية، وجردت رئيس الجمهورية من السلطة، وتحول البرلمان واقعيا إلى منتدى للنقاش والتطاحن، وأطلقت يد المحافظين في التصرف وفقا لأهوائهم، خصوصا في مجال المال العام، وشجعت الجهلاء والمغرضين على رفع أصوات التطاول حتى على كلمة الوطنية! فغاب الردع إلا على الفقراء والأكثر براءة من الناس. وتقع مسؤولية جوانب الخلل هذه وغيرها على من كتبوا الدستور، وإذ لا أستثني الأعضاء الشيعة منهم فأعني بتركيز أكثر الأعضاء السنة، وبتحديد أكثر من ادعى معارضة النظام القائم والحكومة الحالية فهم شركاء في تأسيس أسس الحكم، وشركاء في الحكومة، ومعنيون بالمؤديات ومسؤولون عنها.

من ينظر إلى الساحة العراقية يلمس تطورا إيجابيا كبيرا يتمثل في أن الكتل ذات الخصوصيات الدينية والقومية قد تعمقت الخلافات بينها، وهي فرصة مهمة لبلورة التوجهات الوطنية على حساب الطائفية والعرقية، حيث فشلت إدارة إقليم كردستان في تشكيل الحكومة المحلية رغم مرور نحو ستة أشهر على ظهور نتائج الانتخابات، والصراع السياسي بين الكتل والأحزاب في الإقليم على أشده، والخلافات بين الكتل الشيعية أصبحت أكثر وضوحا من ضوء النهار، أما التحالف «الشيعي - الكردي» فثبت أن ما قيل سابقا عن أنه فقد حتى أطلال ذكرياته لم يكن من باب التمني، بل حقيقة ثابتة.

ولم يستغل سياسيو المحافظات التي بقيت ساخنة على مدى العقد الأخير ظاهرة الخلافات الشيعية – الشيعية، والكردية – الكردية، والشيعية – الكردية، لتحسين أوراق المناورة بما يؤدي إلى إزالة هواجس ومعاناة مناطقهم بطريقة سياسية حضارية تعزز روح الانسجام والتوافق الوطني، وكان ولا يزال في إمكانهم المناورة واستغلال ثقلهم لتقريب وجهات النظر وإصلاح الخلل وتقليل الهوامش الطائفية والعرقية، وتعزيز الإرادة الوطنية، والمحافظة على مصالح العراق العليا، بعيدا عن النظرات الضيقة، ويمكن أن يكونوا بموقع نقطة التوازن الاستراتيجي، لكني يائس من ذلك.

من المحتمل أن تأتي الانتخابات بنتائج إيجابية على طريق التغيير، والانتقال من قيود التوافق المتخلف إلى أفق التعاطي السياسي الوطني المتفتح. غير أن هذا الحلم لن يتحقق بسهولة، فالاتهامات متداخلة من الآن وستزداد تعقيدا قبيل وأثناء الانتخابات وبعدها، ولن تكون التوافقات والاتفاقات لتشكيل الحكومة المقبلة يسيرة، فكل له مطالب لم يعد ممكنا «التفاهم» حولها بسهولة، وقد شاهدنا انتقال «السياسيين» من موقع إلى آخر بسرعة الجنود الفارين من ساحات القتال، تخلصا من موقف وبحثا عن موقع يلبي غاياتهم. ومع أن الأجواء ليست مثالية لإجراء الانتخابات فلا سبيل آخر للتخلص من تغيير المعادلات والقيود السياسية التي تهدد مستقبل العراق وتعرض أمنه للخطر.

لقد وقع العراقيون ضحية «مؤامرات» خارجية وداخلية فعلية، فرضت عليهم أنماطا متعددة غريبة من السياسيين بأغطية طائفية وعرقية، ولم يتطعموا كما ينبغي بطعم الديمقراطية التي كانوا محرومين منها، فتحولت آمالهم إلى ساحات سجال عقيم، انتفع منها من كان يفترض عدم ظهورهم في مواقع مهمة، وأخطر الناس هم أولئك الذين يصورون للآخرين أنهم معنيون بالإسلام دون غيرهم، وهم في واقع الحال في ضلال فكري.

لم يعد مرتقبا تحقيق الديمقراطية التي كنا نتمنى تحقيقها، ولعلنا نصيب إذا ما أيدنا من يحافظ على وحدة العراق ويعمل على تحقيق قدر معقول من العدل والمساواة، وندعو إلى انتخابه وتعزيز دوره في جولة ما بعد الانتخابات العسيرة.