أناقة وصيانة ومسؤولية

TT

لم تسمح ظروفي الصحية باصطحاب الابن قبل الأصغر في سلسلة الأولاد إلى مدرسته الداخلية في مقاطعة سمرست جنوب غربي إنجلترا الأحد الماضي.

أجلست ألكسندر ابن الثانية عشرة في مقعده في عربة القطار وحده (أحد معلميه كان في انتظاره في محطة باث على مسافة ساعتين) ووقفت أودعه على رصيف محطة بادينغتون ملوحا، فحدث ما أدار شريط ذكريات محطة الإسكندرية عام 1949.. في الواحدة تماما، موعد تحرك القطار، أطلق مفتش الرصيف صفارته ولوح برايته للسائق، فأضيئت مصابيح صفراء، واحد فوق كل باب (لكل عربة بابان)، لتبين أن كلها مؤمنة بالأقفال الأوتوماتيكية التي يتحكم فيها السائق، ولا يمكن فتح أي باب أثناء تحرك القطار.

لمبة واحدة ظلت مطفأة في العربة «د»، فلوح المفتش براية حمراء. أعاد السائق دورة عزل وتوصيل الأقفال الأوتوماتيكية وظل مصباح باب العربة «د» مطفأ. وجاء عامل صيانة بأدواته ليكتشف أن اللمبة محروقة والقفل سليم فاستبدل أخرى سليمة بها، وجرّب السائق الأقفال الأوتوماتيكية فاشتغلت وأضيئت كل المصابيح وتحرك القطار متأخرا عن موعده تسع دقائق، لكن الأمر كان يتعلق بسلامة الركاب، وهو أمر لا يمكن التهاون فيه لو فتح أحدهم الباب والقطار يتحرك بسرعة تسعين ميلا في الساعة.

المكان محطة الإسكندرية (ويعرفها الإسكندرانية بمحطة مصر، وهي تحفة معمارية من القرن التاسع عشر) والزمان عام 1949، وأنا طفل أمسك بحقيبة صغيرة، ومجلة «سندباد» وكتاب للقراءة، وأتبع جدي - رحمه الله - في طريقنا للقاهرة.

وجلسنا في ديوان في «السكوندو»، عربة الدرجة الثانية. كانت العربات وقتها درجة أولى تعرف بـ«البريمو»، والثانية «السكوندو»، ودرجة ثالثة تعرف بـ«الترسو» بمقاعد خشبية. القاسم المشترك بين جميع الدرجات هو النظافة التامة والصيانة المستمرة.

كان ديوان، أو صالون، الدرجة الثانية في قطار سكك حديد المملكة المصرية عام 1949 أفضل وأكثر فخامة ووثارة من عربة الدرجة الأولى في قطارات بريطانيا العظمى عام 2014.

قطار بريطانيا عربة وفيها مقاعد وثيرة وطاولات، ومساحة كبيرة لمد الساق، ومصدر كهربائي لتشغيل اللاب توب وشحن الجوال، لكن العربة يجلس فيها سبعون شخصا، ويزعجهم المارة، فدائما شخص يمر من عربة إلى أخرى. لكن قطار مصر قبل نحو نصف قرن، في عربات «البريمو» و«السكوندو»، كان عبارة عن دواوين أو صالونات، تتسع لستة من الركاب، ويغلقها باب زجاجي معتم يفصلها عن ممر من أول العربة إلى آخرها، ولذا لا يزعج الركاب بداخلها أحد يمر من أول القطار إلى آخره أو في طريقه لعربة البوفيه. كانت مقاعد دواوين القطار المصري من القطيفة الفخمة، وثيرة ومريحة ونظيفة. على النافذة الخارجية والساتر الزجاجي والباب الزجاجي الذي يفصل الصالون عن الممر ستائر تحجب الضوء إذا جذبت لأسفل. وفوق كل مقعد من الستة أباجورة إضاءة. وهناك مرآتان في كل جانب متقابلتان. وصور للآثار المصرية وصورة صغيرة في برواز بيضاوي مساحته ست بوصات للملك فاروق ملك مصر والسودان. الديوان يغلق بابه الزجاجي الذي يسحب جانبيا منزلقا على عجلات خفية.. خلع جدي طربوشه ووضعه فوق رف صغير من الأسلاك النحاسية مخصص لوضع الطرابيش والقبعات، وركن عصاه في مكان مخصص للعصي.

كان الأفندية المحترمون في مصر لا يمكن أن تراهم عراة الرأس، دائما بطربوش أو قبعة، وممسكين بعصا للزينة أكثر منها للاتكاء بمقبض فضي أو من العاج، وأحيانا في الصيف ومناطق الريف معهم ما يعرف بـ«المنشة» مصنوعة من شعر ذيل الخيل الطويل لإبعاد الذباب والناموس، ومقبضها من الأبنوس أو العاج أو الفضة (حسب لون بذلة الأفندي). ولذا كانت دواوين القطارات مزودة بأماكن ورفوف لوضع إكسسوار الأفندية وتعليق الطربوش. جاء ساعي القطار النوبي ببذلة نظيفة - وطربوش زي مصلحة «سكة حديد مصر»، لكن فوقها مريلة بيضاء - يحمل صينية من الفضة عليها أكواب الماء لتقديمها لنا. نبّه جدي الساعي إلى أن الأباجورة التي أجلس تحتها لا تضيء وأنا أريد قراءة مجلة الأولاد، «سندباد». اعتذر الساعي.. وقبل تحرك القطار بدقائق جاء عامل الصيانة لتغيير اللمبة المحروقة، وكرر الاعتذار.

في المحطة التالية، سيدي جابر، وهي على مسافة 10 دقائق بعد محطة الإسكندرية في الجدول الزمني قبل الانطلاق للقاهرة، صعد ناظر المحطة إلى العربة، فقد كان تلقى مكالمة من زميله في محطة الإسكندرية عما حدث.

كان يرتدي البذلة الصفراء الأنيقة والياقة المنشّاة والكرافت بشعار «سكة حديد مصر»، والطربوش طبعا، ليعتذر للركاب عن مصباح فات عمال الصيانة تغييره، واستدرك الخطأ وسيوجه «لفت نظر كتابي» لمسؤول الصيانة.

لم يكن في الديوان سوى أنا وجدي، وهانم من عصر الأناقة والجمال. وظل الأفندي ناظر المحطة يكرر الاعتذار حتى دقّ الناقوس النحاسي إيذانا بأن القطار سيتحرك بعد دقيقة واحدة.

أفقت من شريط ذكريات مصر قبل نصف قرن، والقطار الإنجليزي يحمل ولدي الصغير بعيدا.. وفكرت في مسؤولية مفتش الرصيف ومراقبي القطارات وناظر المحطة ومفهوم الصيانة والالتزام بأداء العمل، ليس بشكل روتيني كالروبوت، وإنما بإحساس الفرد بالمسؤولية. فمجرد لمبة كهربائية بعشرين قرشا في قطار محطة بادينغتون يعني الفرق بين السلامة والموت إذا كانت تشير إلى عطب في القفل الآلي لحماية الباب، حتى لا يسقط منه أحد والقطار مسرع. ولمبة ببضعة قروش في قطار الإسكندرية - القاهرة تعني سمعة مصلحة السكة الحديدية، وهي بالنسبة لناظر المحطة تعني سمعته وشرفه الشخصي، وهي الحياة أو الموت مهنيا، فرضاؤه عن العمل له في قلبه قدسية، والتقصير يعني إعلانا بفشله في مهمته في الحياة.

الأمر يتجاوز مجرد صناعة الصيانة التي تحافظ على الأصول والاستثمارات وممتلكات الشعب وأدوات خدماته. إنها خيارات الفرد نفسه في المجتمع وعلاقته بالآخرين من خلال العمل والمظهر والجوهر. فالعلاقة بين التقاليد الإيجابية، وأداء مهام العمل بضمير وأمانة، والاعتناء بالمظهر الأنيق، وبين النجاح، كلها مرتبطة. فجيل جدي من الأفندية واعتناؤهم بالأناقة والطربوش المكوي الأنيق، بمن فيهم ناظر المحطة وساعي العربة والهانم بقبعتها وأناقتها التي ركبت في محطة سيدي جابر.. كلها انعكاس لجيل خيارات أفراده، كل على حدة، هي الالتزام بالمسؤولية والعناية بأدق التفاصيل، واكتشاف الخطأ (اللمبة المحروقة) والتنبه له فورا، ومبادرة إصلاح الخطأ كخيار فردي بدلا من الاتكال بـ«بسيطة.. هناك خمس لمبات أخرى ومصباح السقف»!.. لكن التساهل يفضي لانطفاء مصباح ثان، فثالث ثم كل المصابيح، وعندما يصل القطار إلى القاهرة، يكون الركاب جميعا في ظلام دامس يضلون فيه الطريق.