ثلاثة أرباع الكرة في الملعب الأورو ـ أمريكي!

TT

فكرتان عادتا الى الاضواء، اكثر لمعانا لتتصدرا مدار الافكار والآراء الدائرة كونيا حول احداث 11 سبتمبر بغية النظر في حال العالم الذي لم يعد هو ذلك العالم الذي كانه قبل 11 سبتمبر. الفكرتان هما: «نهاية التاريخ» لفوكوياما و «صدام الحضارات» لهنتنغتون، صاحبا الفكرتين امريكيان، الاول من اصل ياباني، عمل في مجلس الامن القومي الامريكي ويعمل الآن استاذا للاقتصاد السياسي الدولي في معهد جون هوبكينس، والثاني عمل ما بين 77 ـ 78 في البيت الابيض، منسقا للتخطيط الامني في مجلس الامن القومي الامريكي، وما بين 86 ـ 87 تولى رئاسة رابطة العلوم السياسية الامريكية، ويترأس الآن اكاديمية هارفارد للدراسات الامريكية، وهو يهودي صاحب ميول صهيونية مستترة! فكرة فوكوياما عن «نهاية التاريخ» جرفتها الاحداث التي أكدت ان التاريخ لم ينته، واذا كان من نهاية، فهي نهاية «نهاية التاريخ»، الاطروحة التي بشرت باكتمال العقل التاريخي، او العقل في التاريخ، وآية ذلك هيمنة الليبرالية الديموقراطية واقتصاد السوق الحر بلا منازع، لكنه غفل العلم الفالت من كل نهاية، القادر على العبث بالطبيعة البشرية نفسها وتبديلها! كما عبث بطبيعة الطبيعة وبدل فيها! وهو غفل، ايضا، صيرورة الرفض في التاريخ! لكن فوكوياما يكابر في رفضه التسليم بعطالة اطروحته متهما الاسلام بالخروج عن مسار النهاية السعيدة للتاريخ، لأن الاسلام، حسب تحليله، توجد فيه ميول متطرفة ترفض الحداثة! علـى كل حال ظهرت فكرة فوكوياما باهتة، منزوية في بورصة الافكار الاكثر مبيعا حيث تصدرت فكرة «صدام الحضارات» قائمة «البست سيلر» وغرق صاحبها في فرز الدعوات التي انهالت عليه من كل فج عميق في جنبات الارض وحيزاتها الحضارية المتماسة! حل ضيفا ونجما لامعا في اليابان والهند واوروبا، فإلى دبي، محاضرا ومناقشا فكرته الدائرة حول صدام متوقع بين الحضارات!

* ثغرات «شكلية»

* في دبي، في قلب صحراء العرب، حيث تتحايث مظاهر الحداثة العصرية والثقافة التقليدية، حضر هنتنغتون ندوة فكرية عقدها منتدى دبي الاستراتيجي، وكان فيها نجمها اللامع المطارد بالكاميرات والاسئلة اينما حل وتحرك وتكلم! وكما اضطر فوكوياما (قبل احداث سبتمبر وبعدها) الى الاعتراف بثغرات (اعتبرها شكلية) نالت من اطروحته! لطف هنتنغتون من مسلماته! تحدث في محاضرته برؤية سياسية تميل الى التفاهم بدل التصادم وتنطوي على تنصل تكتيكي من مسلماته التي سبق له ان طرحها كحتميات تاريخية اذ نجده، في دبي، يحذر من اخذ مسلمة «صدام الحضارات» مأخذ الجد! ان منطلق اطروحة هنتنغتون في اساسها ابن تصور استراتيجي امني، فتأثير عمله في مجلس الامن القومي وميوله الصهيونية واضحة وجلية في صياغتها! بحيث يمكن، بسبب تحولات او ظروف سياسية ضاغطة، الرجوع عن صرامة مسلماتها وتلافي حتمياتها بما يقود الى حركة تراجع منهجي عن معادلة «صدام الحضارات» الى معادلة «حوار الحضارات» وهو في حيثياته تراجع تكتيكي في اطار الطرح الامريكي الدبلوماسي الذي يرغب في تهدئة روع العرب والمسلمين المتخوفين مما تخفيه الاهداف الامريكية من وراء حربها على «الارهاب» التي يعرف اول زلزالها في افغانستان، ولا يعرف، بعد، توابعه. هذا التراجع التكتيكي «النظري» الذي اظهره هنتنغتون في محاضرته في «ديار العرب» يعزف على «بعبع» بن لادن الذي ـ حسب المنظر الغربي ـ يعمل من اجل صدام الحضارات، بينما المطلوب هو حوار الحضارات! محذر من ان صدام الحضارات سيقع اذا نجح اسامة بن لادن في اقناع المسلمين بأن ما يجري هو حرب ضد الاسلام! وهذه المقولة «النصوح» رائجة في اقوال ساسة الغرب ومفكريه وهي تنطوي على نزعة استعلاء متغطرسة ومنطق وصاية يعتبر العالم الاسلامي بملياره ويزيد، اجتماعا بشريا قاصرا بحيث يمكن لشخص يقود «قاعدة» من الفين او ثلاثة آلاف عضو، ان يورط عالما اسلاميا في صدام حضاري «ديني»! ان كرة صدام الحضارات ليست في ملعب الاسلام وانما هي في ملعب الغرب، واذا اردنا انتهاج الموضوعية فلنقل ان ثلاثة ارباعها تجاوزت الخط داخل ملعب الغرب (الاورو ـ أمريكي) وربعها المتبقي داخل ملعب العالم العربي ـ الاسلامي!

* جادة الصواب الحضاري

* ان المنطق الغربي الذي يعظم ذاته الحضارية بحسبانه مركز العالم والتاريخ، ينظر الى الآخر، وهو هنا المسلم وثقافته الاسلامية، بحسبانه كائنا متخلفا متعصبا، قاصرا عن استحقاق الحداثة والديموقراطية، وبالتالي هو في حاجة الى ارشاده الى جادة الصواب الحضاري! والغرب السياسي، هنا، لا يتبنى اليوم استراتيجية خطابه الكولونيالي الكلاسيكي، انه يتوسل استراتيجية جديدة في ألفية جديدة! تحسب بدقة حساب الثقل الكوني للعالم الاسلامي (جيو سياسيا وديموغرافيا واقتصاديا)، انه يخشى بجدية فكرة الصدام الحضاري ـ الديني بين عالمه وعالم الاسلام! (انظر تصريحات بلير وشيراك وشرودر وما بذله بوش في محاولة لتبديد الانطباع الممقوت اسلاميا عن زلة لسانه بتعبير «الحرب الصليبية» في ترجمته العربية!)، لكن تصريحات الدبلوماسية من قادة ورجال سياسة ودين غربيين لا تفي بالغرض وحدها من دون التبدل الملموس في الممارسة السياسية الغربية الاستعلائية ومواقفها الظالمة تجاه العالم الاسلامي وقضاياه! ومن دون توقف، معامل «المولتي ميديا» ومراكز المعلومات ومعاهد الدراسات الموبوءة بالنزعة الصهيونية، عن انتاج صورة Image العربي ـ المسلم المحقر، والموصوف بـ «المتعصب، الجاهل، الكسول، الجبان، الشهواني، الكذاب..» الى آخر قاموس الثقافة العنصرية! وينبغي للدوائر السياسية الغربية التوقف عن رسم سياستها حيال العالم الاسلامي تحت تأثير تقارير استراتيجية امنية وحملات اعلامية (انظر الحملة الاعلامية المنظمة ضد مصر والسعودية) التي تنتج في معاهد للدراسات المرتبطة بالمنظمات الصهيونية المتحكمة في المستقبل السياسي لأعضاء الكونغرس! فمؤخرا، مثالا لا حصرا، صدر عن مركز الدراسات الامنية والدولية الامريكي تقرير امني يحمل عنوانا متغطرسا: «من اجل ان نسود» يدعو الى ما يسميه «تغيير القلوب والعقول» في العالم الاسلامي وكأن قلوب العرب والمسلمين وعقولهم قابلة للتعديل والتغيير؟! ويوصي التقرير بمعالجة بذور الكراهية لامريكا في قلب العالم الاسلامي عبر زيادة المساعدات الخارجية، لأن التنمية، كما يعتقد واضعوه، تمثل في جوهرها الامن، وكذا يوصي بالحكمة في شن حروب اخرى.. وماذا عن كرامة الانسان وحقوقه في الخلاص من الوصاية والتبعية والمهانة!

* هنتنغتون ووصاياه الأربع

* ونعود الى هنتنغتون ووضع الكرة على الخط الفاصل بين الملعبين! هنتنغتون في كلمته امام مـؤتمر «منتدى دبي الاستراتيجي» طرح اربع نقاط على الغرب (امريكا تحديدا) ان يأخذ بها:.

اولا: على امريكا التخلي عن افتراض ان ثقافتها ثقافة كونية وان الآخرين يرغبون في ان يكونوا مثل الامريكيين.

ثانيا: ان امريكا التي قامت بعمليات عسكرية في 61 بلدا، خلال الثمانينات والتسعينات، عليها ان تحد من مثل هذه العمليات العسكرية الى الحد الذي تكون عنده مصالحها الحيوية مستهدفة.

ثالثا: امريكا في حاجة الى ان تباعد بينها وبين اسرائيل، وان تشارك في الجهود التي تستهدف اقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس.

رابعا: بامكان الغرب ان يساعد في تنشيط التنمية الاقتصادية في الدول الاسلامية الفقيرة بعدة طرق منها اتفاقيات التجارة الحرة مثلما حدث بين الولايات المتحدة والاردن!.

لكن هذا التحديد لوضع الكرة في الملعب الغربي ليس وافيا، انه تصور تكتيكي، يحسن الوضع ولا يعالجه، فما معنى ان تباعد (كيف؟!) امريكا بينها وبين اسرائيل؟ لماذا لا تستخدم مجلس الامن الدولي ضد اسرائيل كما تستخدمه باستهتار ضد الدول الاسلامية؟ لماذا لا تفرض على اسرائيل القبول فورا بقرارات مجلس الامن؟ وكيف تحد امريكا من عملياتها العسكرية اذا كانت تعتبر العالم مجالها الحيوي، ومجلس الامن الدولي مجلس امنها القومي؟! .. وبقي ان نقول شيئا عن ربع الكرة في ملعب العالم العربي ـ الاسلامي انه، ولا شك، غياب الديموقراطية، وما ادراك ما الديموقراطية؟! [email protected]