تدوير ريع النفط

TT

لا يخفى على عاقل ما للنفط من أهمية بالغة الحساسية في الخارطة السياسية ليس لكونه قوة اقتصادية فحسب بل لأنه كثيراً ما يحرك خيوط مسرح السياسة ويلعب دوراً ساخناً في توجيه مراحل بعض الحروب.

وتبعا لأهمية صناعة البترول تطورت الاتفاقيات البترولية بما يغطي التكاليف الباهظة للعمليات الخمس المصاحبة «الاستكشاف والتنقيب والتكرير والإنتاج واخيرا التصدير» علما بأن الاستثمار في النفط يعد استثماراً طويل الأجل لا يمكن استرداد العائد على رأس المال الا منقوصاً وبعد سنوات وأعمار عديدة.

وعليه ونظرا لارتفاع تكاليف صناعة النفط شهدت عمليات استخراج البترول وكذا مشتقاته اتفاقيات خاصة لتلك الظروف منها مناصفة الأرباح او استرداد النفقات على شكل نسب من الانتاج في البدايات الأولى. الخلاصة الاقتصادية البحتة التي أود الوصول اليها هنا ان السؤال الفضفاض الذي يذهب بالقول اين تذهب اموال النفط محسوم من قبل المختصين لأن تكاليف الاستخراج باهظة وريع النفط قد لا يغطيها كما في بعض الدول، مما دفع بإغلاق تلك الآبار ناهيك من مخاطر وجود نفط مستخرج بكميات تجارية متى بوشر الانتاج، الأمر الذي عانت منه دول شرق اوسطية عديدة في بداية الاستكشاف التاريخي للنفط وتعريجاً الى الواقع المحلي وبعملية ذهنية تتم اعادة تدوير جزء كبير من ريع براميل النفط في البنود التالية:

ـ تطوير الطاقات الوطنية عبر امتصاص الخبرة من الكوادر الاجنبية وما يتبع ذلك من ابتعاث أو تدريب على رأس العمل مع استمرارية رفع كفاءة العاملين وفق احدث الوسائل.

ـ بناء بنية تحتية تكنولوجية لإدارة العمليات الرئيسية والفرعية المصاحبة لصناعة النفط والعمل على تحديثها بما يتناسب مع التطورات.

ـ الصرف المستمر على تشييد وصيانة الحقول والمصافي البترولية وما يتبعها من خطوط النقل والتصدير سواء من سكة حديد أو سفن عابرة للقارات أو حتى انابيب ضخ في اراضي الدول المجاورة.

ـ المباني والعقارات السكنية والتجارية وما يتبعها من صيانة المرافق، خدمية، طبية، تعليمية... والأهم من ذلك النفقات الباهظة والمستمرة للإنتاج والتكرير وكذا التصدير الدائر من دون توقف مع عجلة صناعة النفط وحجم المخاطر التي دفعت بالشركة الأمريكية منذ قديم الأزل قبل المجازفة بالتنقيب على النفط في المنطقة الشرقية بالسعودية باشتراط امتياز شركة ارامكوا ستين عاما في العقد الأول ثم جدد لعشرة أعوام اخرى في العقد الثاني عند تعديل الامتياز سنة 1939 ودفع الشركات العالمية من جهة اخرى لإقفال آبار نفطية عديدة حتى بعد ان بوشر الانتاج في مختلف الدول المنتجة للبترول عالميا لظروف فنية واقتصادية بحتة.

من جهة اخرى وثيقة الصلة بالموضوع، لا يمكن ان تمر مناقشة من دون أن يتم فيها ذكر مبالغ غير سليمة عند الحديث عن ريع النفط السعودي واثارة علامات استفهام لا تسبب سوى تصدع في ذهن رجل الشارع العادي، هذا ولا انسى الجدلية التي دارت بين المهتمين العام الماضي حول مبلغ الثلاثمائة مليار ريال سعودي كريع للنفط عام 2000 هذا غير الايرادات الاخرى، وجميعها ارقام غير سليمة وفيها غمز ولمز لمصداقية الموازنة وليس من باب التصديق الأعمى للموازنة الحكومية أو تصديقاً لوزير ماليتها الذي سجلت وزارته ايرادات الدولة الكاملة فيها من اوجه الدخل كافة، النفطية وغير النفطية، للعام المنصرم بـ 248 مليار ريال سعودي بقدر ما هو توخي الدقة وسلامة الحديث بالأرقام فحتى الوارد من براميل النفط لا يقبض كاملاً باليد بل يعاد صرفه على صناعة البترول كما سبق شرح ذلك.

وعليه فإن السؤال عن ثلاثمائة مليار ريال (ريع النفط) هذا غير الايرادات الاخرى مبني على حسابات غير دقيقة ولا ادري كيف فاتت على الاقتصاديين والمراقبين وكذا اخص وزير البترول السعودي قبل الأسبق وذلك في حديثه للقنوات الفضائية. فالعملية الحسابية غير سليمة فسعر البرميل المضروب في الكمية كلاهما خطأ.

اضف الى ذلك افتراض السؤال عن المبلغ الصافي بعد اقتطاع النفقات الضخمة في صناعة النفط مع الانتباه بأن ليس كل ما يلمع نفطاً نفيساً. فالبترول نوعان ثقيل وهو الأرخص ثمناً والأكثر كمية والاخر نفط خفيف وهو الأغلى في التسعيرة وتجب معرفة الفرق بين تلك الأنواع وعدم احتساب الكمية على اساس نوع واحد واختيار (الأغلى) والأندر. مع التذكير بأن سعر النفط في الأسواق البترولية لا يعد السعر الرسمي للبيع على الإطلاق ومن العمليات المعيبة اقتصادياً حساب السعر استناداً الى أي من بورصات البترول الثلاث لندن، نيويورك، سنغافورة كسعر بيع لأنه محمل بهوامش اخرى من ابسطها النقل. فإذا كان سعر خام برنت في السوق ثلاثين دولاراً لا يعني انه سعر بيع برميل النفط السعودي في مواطن انتاجه الاصلية الذي قد يكون اقل من ذلك بكثير. قبل ان يصل الى الأسواق النفطية العالمية فسعر البيع في مواطن انتاجه غير سعره في بورصة البترول العالمية.

ختاماً: القضية هنا تحتاج لمحلل مالي أو خبير اقتصادي لفك طلاسمها ونأمل منهم الإدلاء بدلوهم وأود من جهتي بيان ان الدين العام السعودي يعد في غالبه قرضاً داخليا مملوكاً للدولة مثل مطلوبات مصلحة التقاعد ومطلوبات المؤسسة العامة للتأمينات التي تنقسم لقسمين: الأول يتعلق بالمبالغ المالية التي تم سحبها مباشرة من ميزانية صندوق معاشات التقاعد، والثانية تتعلق بالجزء الواجب على الحكومة دفعه لصندوق معاشات التقاعد لتغطية نسبة 9% لموظفي الدولة بالقطاعين المدني والعسكري والمتأخر عليها لعدم سدادها في الوقت المحدد لتغطية التأمينات.

وعليه فهذا النوع من القروض لا يمثل عبئاً على مسيرة الاقتصاد ومستقبل الأجيال القادمة ولا حتى يضعف سيادة الدولة طالما أنها غير مدينة لجهات خارجية بقروض كبيرة متراكمة عليها. هذا لو علم بعضنا بقيمة القروض الداخلية على دولة في حجم الولايات المتحدة لوقف قلبه ولم يخفق، اما ما يقال حول افتراض الاقتراض الثاني، اقتراض الدولة من البنوك لسحب السيولة النقدية، فهذا كلام غير علمي وفيه زج للتعابير الاقتصادية في غير مكانها لأن الحكومات عندما ترغب بامتصاص السيولة من المصارف والبنوك تتلاعب بمنتهى البساطة بأسعار الفائدة الأمر المتعارف عليه في فقه السوق النقدية.

وقطعاً.. يبقى للتذكير: بأن بنود نفقات التسليح لا تظهر كاملة في الموازنات كما هو متبع في أغلب دول العالم حفاظاً على سرية صفقات السلاح الأمر الذي يقتطع من ريع النفط ويعد تفسيراً للاستفهام حول بنود صرف أموال النفط المحلية التي حققت على الرغم من ذلك فائضاً في الموازنة العامة.

هذا وسيظل الجدل مستمراً حول سلامة الصرف الرشيد للايرادات العامة واهمية الهيكلة الاقتصادية وتنوع القاعدة الانتاجية مع التذكير بنظرية الكأس الاقتصادية المفهومة للعامة: نصف مليء ونصف فارغ.

[email protected]

* كاتبة سعودية