لماذا يحبون الأعداء؟!

TT

لا يخلو التاريخ من فئات في كل مجتمع تشطح بعيدا عن مصالحه وتوالي خصومه وأعداءه، إما خيانة وإما جهلا وإما لانغماسهم في مناكفات صغيرة مع الدولة أو بعض مؤسساتها المتفرعة عنها أو أفرادها، وإما لطموحات جهوية، وإما لتركيبة معقدة للشخصية ذاتها تجعلها مستعدة على الدوام لاتخاذ مواقف معاكسة لما يتوقع منها.

ولنأخذ بعض الفئات في المجتمع السعودي والخليجي تلك التي لها تاريخ طويل يوضح المقصود هنا، فمثلا عندما أبان عبد الناصر عن عدائه للسعودية وما كان يسميه «الملكيات الرجعية» وجد لها أنصارا في داخل هذه الملكيات، وعندما أعلن الخميني عن تبنيه لـ«تصدير الثورة»، وهو يقصد الدول العربية ودول الخليج تحديدا، وجد له كذلك أنصارا ومؤيدين، بل حتى صدام حسين عند غزوه للكويت 1990 كان له أنصار من عناصر جماعة الإخوان المسلمين وأشباههم.

كانت هذه ولاءات آيديولوجية عابرة للأوطان سواء كانت آيديولوجيات قومية كالناصرية والبعثية ونحوهما، أم آيديولوجيات إسلام سياسي بشقيه السني والشيعي، ولكن المثير هو أن ثمة فئة لا تنتمي لأي من هؤلاء من مثقفين وإعلاميين وناشطين من كل شكل ولون استمرت في البقاء والتكاثر، ولم يزل لها حضور حتى اليوم، فما هي هذه الفئة؟ ولماذا وجدت؟ وماذا تريد؟

أما هذه الفئة فهي تجمع خليطا من مجموعات وأسماء لديها ما يمكن تسميته «العداء للدولة» أو معاداة المؤسسات التي تمثلها. وعداء الدولة هو معنى مختلف تماما عن معارضة الحكومة أو نقدها أو حتى التهجم عليها، فالدولة هي الوطن والكيان الذي يجب محضه الولاء، ويمثل المجتمع ويحمي ويخدم المواطنين وذلك بخلاف الحكومة؛ فهي إدارة مكونة من وزارات ومؤسسات تنجح وتفشل، ولكن الخلاف مع الإدارة لا يمكن أن يكون مبررا لعداء الوطن والدولة.

أما لماذا؟ وماذا تريد؟ فمن تشملهم هذه الفئة وصلوا لهذا العداء عبر طرق مختلفة، منها سياق تاريخي إنساني معروف في إحساس الفرد العادي بأن أي كيان سياسي هو كيان سيظلمه يوما أو يسرقه أو يعتدي عليه، ومنها أن الغوص في مسائل خلافية مع الإدارة الحكومية أو بعض مؤسساتها أو أفرادها يعمي البعض عن القدرة على رؤية أوسع للصراعات الخارجية إقليميا ودوليا، فبالتالي هو يشعر بأن ضعف الدولة والوطن سيعزز مكانته ومطالبه الداخلية الضيقة، ومنها أحلام وردية لتميز جهة ما في الوطن وأنها تستحق أكثر من غيرها من بقية أجزائه، ومنها مزاج خاص لدى البعض بمعاداة كل ما حوله تقريبا والبحث دائما عن موقف مخالف يمنح صيتا ويعلي شأنا.

ولنأخذ أمثلة كاشفة. في 2006 عندما اختار حسن نصر الله أن يدخل في حماقة بجره لبنان إلى حرب غير متكافئة مع إسرائيل دمرت لبنان كانت هذه الفئة تدافع عنه وعن شعاراته: الممانعة المقاومة، واستمر التأييد حتى بعد اجتياح بيروت في 2008 على أن الجرم صار أكبر والبندقية المقاومة عادت لصدور اللبنانيين، وعندما اختار خالد مشعل ورفاقه الانقلاب في غزة والسيطرة عليها بالقوة المسلحة وجد من هذه الفئة من يهتف له ويبرر. أذكر أن الحديث هنا ليس عن المؤدلجين من أتباع حركات الإسلام السياسي الشيعي كحزب الله أو حركات الإسلام السياسي السني كجماعة الإخوان المسلمين، بل الحديث تحديدا عن بعض شرائح الفئة المذكورة.

انتعشت هذه الفئة بشكل غير مسبوق بعد 2011 وخرافة «الربيع العربي» فأخذت في التنظير لخياراتها السابقة ورأت أنها امتلكت أدوات ضغط جديدة على الدولة - الوطن فأخذت تنظر للتشابه بين كل دول ما كان يعرف بالربيع وتروج لحتمية الانتقال لكل الدول العربية وتركز على أنه سينتقل لدول الخليج العربي، وعلى رأسها السعودية، فهللت لما جرى في البحرين مع أن أحداث البحرين كانت لها أبعاد أكثر رسوخا وتعقيدا من حكاية الربيع العربي، وفعلوا الأمر عينه تجاه ما جرى في الكويت من احتجاجات.

في الوقت نفسه تجاوزت هذه الفئة لجماعة الإخوان المسلمين في السلطة عن كل أخطائها، بل ودافعت عنها بحكم التقاء المصالح وبوصف الجماعة عدوا للسعودية ودول الخليج، وهي اصطفت إلى جانب الجماعة ضد دولة الإمارات العربية المتحدة حين دخلت في معركة صريحة مع الجماعة وتنظيمها الفرعي في الإمارات.

هذه الفئة اضطربت كثيرا عندما انتقلت تلك الأحداث إلى سوريا من جهتين؛ الأولى: دخول حزب الله الممانع والمقاوم في حرب طائفية ضد الشعب السوري، فكانت صدمة للبعض عبر خلالها عن حجم الخديعة الذي كان خاضعا له واستمر في التنظير ولم يقدم تنظيرات جديدة بنفس حماسة واجتهاد التنظيرات القديمة، ولكنه أفضل ممن بقي على اتجاهه القديم يتلمس التبريرات حتى تراجع مضطرا.

الثانية: المواقف السياسية قريبة ويمكن استحضارها بسهولة، وقد كانت المملكة العربية السعودية هي أول وأقوى دولة في العالم أعلنت وقوفها الصريح والقوي في مساندة الشعب السوري ضد نظام طائفي يقتل شعبه، وهنا لحظة مهمة، حيث إنه رغم إفاقة المصدومين وتراجع المكابرين كانت السعودية ومواقفها السياسية ملء السمع والبصر لا يكادون يجدون عنها محيدا، ولكنهم وجدوا مخرجا يستمرون فيه في ذات نهجهم القديم، وكان مخرجهم رجب طيب إردوغان، فبجلوه ومجدوه وحملوه ما لا يحتمل، لكن لا بوصفه الخليفة العثماني الجديد كما يطرح مؤدلجو الإسلام السياسي، بل بوصفه قائد الديمقراطية في المنطقة أو صاحب النموذج الاقتصادي أو قاهر النظام الطائفي في دمشق، أو حامي «السنة» في المنطقة والعالم، وكل اختار له وصفا يمكنه من التشبث بعداء دولته أو مخاصمتها، ولم يتغير لديها شيء حين سعى لتوطيد علاقاته بحامية نظام دمشق في المنطقة، ولا حين حجب موقع «تويتر» الذي كانت لها فيه صولة وجولة.

أخيرا، الحديث هنا عن نماذج هذه الفئة ممن يتناولون الشؤون السياسية ويهتمون بها، ولكنْ ثمة فروع لهذه الشجرة تظهر في شؤون أخرى، فمثلا في القضاء تجد من يمجد التطوير القضائي الذي قامت به جماعة الإخوان المسلمين بمصر أو تونس، ويهاجمون أو يتجاهلون مشروعا بحجم مشروع الملك عبد الله لتطوير مرفق القضاء، وثمة من يهاجمون تشدد بعض فقهاء السعودية ويكيلون المدائح لتساهل جماعة الإخوان المسلمين وفقهائها المعادين كالقرضاوي، وآخرون في الإعلام يشيدون بنزاهة ومهنية قناة «الجزيرة» في قطر، ويهاجمون الإعلام السعودي والخليجي العام والخاص، وهكذا في سلسلة لا تنتهي.

[email protected]