الجماهير سلطة طاغية

TT

هناك من يظن أن إلهاب حماس الجماهير واستفزاز الخصوم وسيلة ناجحة لتحقيق الغايات وإنجاز المقاصد، ولقد أثبتت بعض التجارب في عالمنا الإسلامي أن من يلهب أكف التصفيق حماسا لك وإعجابا بك هو أول من ينساك أو يتجاهلك حين تصيبك قارعة أو تحل قريبا من دارك، ولقد شبه أهل الجزيرة هذه المواقف بسعف النخل اليابس سريع الاشتعال سريع الانطفاء.

لقد تكبد بعض المهتمين بالشأن الإسلامي الكثير من الخسائر غير المبررة في طريق الإصلاح والتغيير، وكان بإمكانهم تفادي الكثير من هذه الخسائر والنكبات لو أنهم غلبوا جانب العقل والتبصر في عواقب الأمور على العاطفة والاكتفاء بتحقيق بعض المكاسب الآنية الهامشية.

يحلو لبعض المهتمين بالشأن الإسلامي في بعض الدول الإسلامية أن يردد في أدبياته الحديث عن فتنة الحاكم وتأثيراتها السلبية على عملية الإصلاح، والصحيح أيضا أن فتنة الجماهير لا تقل عن ذلك تأثيرا، فحين تحتشد الجماهير لتستمع إلى خطيب مفوه أو تصغي إلى متحدث مؤثر أو تقرأ لكاتب مشهور، حينها تمارس الجماهير ضغطا نفسيا له لهيب أشد حرارة من سياط جلادي السلطة، وله هدير أشد من تهديد الحاكم بالمعتقلات، فينطلق اللسان من عقاله وتغمر بحار العاطفة ما بقي من أرض العقل والمنطق، فتطلق الأحكام المستعجلة والأوصاف المتسرعة، ويصبح الانتماء إلى عمل إسلامي مسوغا لا يستحق، فاستعديت شرائح كثيرة في مجتمعاتنا الإسلامية كان من الأولى ملاينتها، وأقصيت نخب مثقفة وكان حقها أن يدنيها، فليس كل من اختلف معك بالضرورة ضدك، وليس كل ما عاداك في شخصك صار عدوا للإسلام، وليس كل من انتقدك في أطروحتك قد هز ثابتا من ثوابت الدين.

عدد من المهتمين بالشأن الإسلامي - وأرجو أن يكون قليلا - يتعاملون مع غيرهم على قاعدة: إما أن تكون قديسا وإما أن تكون إبليسا، وينسون أن غالبية البشر تحمل خيرا لكنها تتفاوت في نسبة حمله كتفاوتها في نسبة رغبتها في الشر، والموفق الذي يقلل الشر ويتقيه ويشجع الخير وينميه، وأما الذي يستفز المخالفين ويستعدي المحايدين ويكثر الخصوم بل ويفرح للخلاف مع من يحمل معه هما مشتركا، فهو كل على مولاه أينما توجه لا يأتي بخير.

أعود إلى مسألة التأثير الجماهيري وأشير إلى أن مفكرا إسلاميا معروفا، وله شعبية بين الإسلاميين رأى أن الضرورة تقتضي استعانة بلده بالقوات الأجنبية لحمايتها من عدوان بلد مجاور، فتلقى بسبب هذا الموقف نقدا لاذعا وهجوما كاسحا، فرد على الجميع بأن هذا موقف مبدئي وليست القضية «ما يطلبه المستمعون»!!

[email protected]