حكاية باريسية

TT

بيني وبين باريس خصومة لا يمكن نسيانها بسهولة، فقد زرت مدينة اللوفر وفيرساي والشانزيليزيه والسوربون بدل المرة مرات، ولا أنكر أن معمار المدينة وجمالها لا يفوقه معمار وجمال آخر. وكانت آخر زياراتي منذ عامين تقريبا أثناء الانتخابات الأخيرة التي أتت بفرنسوا هولاند رئيسا. والحقيقة هي أنني ذهبت لا شعوريا لكي أعقد مع المدينة صلحا، خصوصا أن زوجي وابنتي كانا معي في تلك الزيارة. وحرصنا أن نقيم في فندق قريب من ساحة الباستيل، حيث كان من المقرر أن تقام الاحتفالات بفوز الرئيس الجديد.

ويبدو أن باريس رفضت الصلح.. ففي ليلة الاحتفالات شعرت بأعراض المرض العضال الذي لم يفارقني حتى يومنا هذا. لزمت فراشي ولم أشارك في الاحتفال.

ورغم استمرار الخصومة بيني وبين مدينة النور، فإنني وجدت نفسي معجبة جدا بقرار اتخذته السلطات الفرنسية حين وصلت درجة تلوث البيئة جراء عادم السيارات إلى درجة أصبحت تهدد صحة المواطن. اقترحت الحكومة أن تكون تذاكر المترو مجانا وكل وسائل النقل العام الأخرى، بحيث لا يشعر كل من يمتلك سيارة بأنه مجبر على استخدامها، فيخف الخطر ويخف زحام المرور. ورغم أنني لست بارعة في الحساب، فإنه لم يكن عسيرا أن أستنتج أن مثل هذا القرار سوف يكلف الحكومة الفرنسية أموالا طائلة، وهي لفتة نادرة لا تجود بها النظم الرأسمالية.

حين قرأت الخبر اتجه تفكيري إلى القاهرة التي ولدت بها وعشت العشرين عاما الأولى من حياتي فيها، فامتلأ قلبي أسى وأنا أفكر في زحام المرور الخانق في القاهرة حاليا أثناء النهار ويمتد إلى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي.. فكرت في السيارات العتيقة التي تزحف زحف الكسيح وتنفث سمومها لتملأ رئة الصغير والكبير. لم يخطر ببالي أن الحكومة المصرية قد تحذو حذو الحكومة الفرنسية، ليس لأنها حكومة بلا قلب، وليس لأنها حكومة بلا خطة، ولكن لأنها وضعت أصابعها في الشق، أو كادت، لأن الشعب المصري يزيد بمعدل مليون نسمة سنويا.

في الزمن الجميل كنا 17 مليونا، وأصبحنا اليوم 90 مليونا. وهجر سكان الريف قراهم إلى القاهرة بحثا عن القوت، فأصبحت القاهرة قرية عشوائية.

ومن القاهرة، اتجه تفكيري إلى الصين وماو تسي تونغ حين شعر بأن الزيادة السكانية تهدد أي فرصة للتنمية والتقدم في الصين، فأصدر فرمانا يحرم إنجاب أكثر من طفل واحد لكل أسرة.. فقلت لنفسي: معاذ الله.

وقد تكون خطة ماو تسي تونغ نجحت وأصبحت الصين دولة قوية اقتصاديا وصناعيا، ولكن منع الإنجاب لا يرضي الله ولا يرضي الفقير الذي يعتبر أن كثرة الأولاد هي مصدر للرزق حين يدفع بأطفاله إلى الشوارع للعمل وجني بضعة قروش إضافية. كما أنه يعتبر العلاقة مع زوجته، التي تثمر مليون فم كل عام تحتاج طعاما وتعليما ورعاية صحية، حقا ومتعة مشروعة لا عيب فيها ولا تدخل تحت مظلة الحرام.

فما الحل؟ هل يمكن أن تتكفل الدولة المصرية بتعليم أول طفلين لكل أسرة تعتبر تحت خط الفقر، وتتكفل برعايتهم الصحية وملابسهم حتى سن السادسة عشرة، بحيث يخرج الطالب وقد تعلم تعليما صناعيا يؤمِّن له مهنة يفضلها عن غيرها كصناعة الأثاث أو الكهرباء أو الفنون الشعبية مثل النقش على النحاس أو صناعة الفخار والخيامية.. وغيرها كثير؟

مثل هذا المشروع القومي يحتاج إلى إدارة حازمة؛ وأول شروطها ألا ينجب الأبوان أي أطفال جدد حتى يتخرج الابن الأول في المدرسة في سن السادسة عشرة، ثم يلحق به أخوه.

مثل هذا المشروع يوفر على الحكومة أزمة الإسكان وأزمة تفشي الأمية وأزمة سوء التغذية. وقد يخف الزحف على العاصمة بحثا عن فرص إذا ما بنيت المدارس والمراكز الصحية بالقرب من القرى المهجورة. وفي مثل تلك الظروف قد يعود بعض من هجروا الريف إلى مهنة أجدادهم الذين ارتبطوا بالأرض والمحاصيل لآلاف السنين.

هل تعتبرون اقتراحي رومانسيا؟ وما دمنا نتكلم عن الرومانسية، أكاد أجزم بأن تكون زكاة عام واحد يدفعها الأغنياء كاملة بلا تهرب ضريبي أو تلاعب بالقوانين والأرقام، كافية لتطبيق أول مرحلة من كفالة جيل إلى أن تدرك أي حكومة جديدة وعلى رأسها رئيس جديد أن مصر بحاجة إلى خطة وإلا أصبح التسعون مليونا مائة وتسعين، وتفشت الأمية وسوء التغذية ونقمة الفقير على الغني.