الأخطاء الاستراتيجية في إدارة الأزمة الأوكرانية

TT

إدارة السياسة الخارجية هي عملية توازن مستمرة بين المصالح والمخاطر، بين المصالح التي تسعى كل دولة إلى تنميتها وتعظيمها، وبين المخاطر التي تنشأ بسبب الصدام مع مصالح دول أخرى. وخلال هذه العملية قد يحدث سوء تقدير للموقف أو أخطاء استراتيجية، ويؤدي ذلك إلى نشوب الأزمات الدولية أو ربما اندلاع الحروب. والأزمة الأوكرانية هي شاهد على مجموعة من الأخطاء الاستراتيجية وسوء التقدير لتداعيات موقف أو قرار من جانب موسكو من جهة، والأطراف الداخلية في أوكرانيا من جهة ثانية، وواشنطن من جهة ثالثة.

أخطأت روسيا في ضغطها على الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش الموالي لها لإقناعه بعدم التوقيع على اتفاقية للمشاركة مع الاتحاد الأوروبي بعد أن كانت المفاوضات بين الطرفين قاب قوس أو أدنى من الوصول إلى اتفاق. وأوقع ذلك يانوكوفيتش في موقف حرج، فقد مثلت استجابته للضغوط الروسية صدمة لكثير من الأوكرانيين وللآمال التي عقدوها في الحصول على الدعم الأوروبي الاقتصادي والتكنولوجي، وأوجد ذلك فرصة سانحة استغلتها المعارضة ضد الرئيس.

وأخطأت القوى المعارضة بعد وصولها للسلطة في إلغاء «قانون اللغات» والذي يضمن حق الأوكرانيين من أصل روسي في استخدام اللغة الروسية في تعاملاتهم. وأتى هذا القرار كصدمة لمواطني جمهورية القرم وأغلبيتهم من الأوكرانيين الروس. ولفهم ذلك ينبغي تذكر أن جمهورية القرم تم ضمها بقرار من خروشوف إلى أوكرانيا عام 1954، وبعد استقلال أوكرانيا كانت هناك محاولة لاستقلالها ولكن تم تسويتها، وارتبطت جمهورية القرم بالدولة الجديدة في صورة «اتحاد» يضمن لها حكما ذاتيا ويكون لها برلمان منتخب وحكومة خاصة بها. وأدت هذه المخاوف إلى دعوة برلمان القرم لاستفتاء على حق تقرير المصير، وفي مرحلة لاحقة اتخاذ قرار بالرغبة في الانضمام إلى روسيا.

ولكن الخطأ الاستراتيجي الأكبر ارتكبته واشنطن – والاتحاد الأوروبي - بتدخلها في «الحديقة الأمامية» لروسيا والسعي لتغيير نظام الحكم في أوكرانيا بالدعم المالي والتأييد السياسي وأنشطة المخابرات. ولم تقدر واشنطن أن أوكرانيا هي «نقطة تماس مباشر» مع الأمن القومي الروسي، وأن موسكو ليس لديها مجال للمناورة أو المرونة عندما يتعلق الأمر بها.

فالعلاقات الروسية - الأوكرانية هي علاقات تاريخية ممتدة ومتعددة الجوانب العرقية والاقتصادية والثقافية والاستراتيجية، فقد استمرت أوكرانيا جزءا من الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي من القرن التاسع عشر؛ تربطهما حدود مشتركة، وتمتد أنابيب الغاز الروسي المتجه إلى أوروبا عبر أراضيها. ونظرا لأن روسيا لا تملك موانئ على المياه الدافئة فإن أسطولها في البحر الأسود يوجد في ميناء سيفاستوبول أحد موانئ القرم وذلك بموجب عقد إيجار حتى عام 2017 ثم مده يانوكوفيتش إلى عام 2042. وباليقين فإن هذا الجانب الخاص بالأسطول البحري الحربي الروسي هو مسألة أمن قومي من الطراز الأول خاصة أنه سبق لأوكرانيا عام 2009 في ظل حكومة موالية للغرب أن أثارت هذا الموضوع وطالبت بإلغاء عقد الإيجار.

هذا الخطأ الأميركي له سوابق. لقد تدخلت الولايات المتحدة أولا لخلخلة الاتحاد السوفياتي والإسراع بانهياره، وتدخلت ثانيا لدعم الحركات القومية في الجمهوريات السوفياتية، ثم تدخلت ثالثا في عام 2004 في أوكرانيا لدعم ما سمي وقتذاك «الثورة البرتقالية» والتي صورتها أجهزة الإعلام الغربية على أنها ثورة ديمقراطية جديدة، والحقيقة أن ثمرتها لم تتجاوز نقل السلطة من عناصر موالية لروسيا إلى عناصر موالية للغرب بينما ظلت الأوضاع السياسية والاجتماعية دون تغيير رئيسي. وها هي تتدخل للمرة الرابعة لدعم حركة تقوم على احتلال الميادين واقتحام المباني الحكومية لإزاحة رئيس منتخب موالٍ لروسيا لحساب أنصارها ومؤيديها.

والفارق بين المرات السابقة وهذه المرة هو في الوضع الروسي، فروسيا اليوم دولة نجحت في ترتيب بيتها الداخلي سياسيا واقتصاديا، وتقوم دبلوماسيتها بدور عالمي نشط. ولم يعد من الممكن لها السكوت عن هذا التدخل الأميركي أو غض الطرف عنه. ولا أحد يعرف ماذا دار في المحادثة التليفونية بين الرئيسين الأميركي باراك أوباما والروسي فيلاديمير بوتين التي استمرت 90 دقيقة، ولكن من الأرجح أن واشنطن وموسكو لن تضحيا بحصاد علاقات التعاون بينها في مناطق شتى من العالم، وأن كلتيهما ليس من مصلحته بدء حرب باردة جديدة وإنما سوف تصلان إلى حل يحفظ مصالح وماء وجه الطرفين.

* وزير مصري سابق