قمة خريم.. السعودية وأميركا

TT

زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما للمملكة العربية السعودية ولقاؤه العاهل السعودي زيارة مهمة للدولتين، وهي تأتي في ظل خلافات خيمت على العلاقات بين البلدين، وهي خلافات معلنة أثارت تساؤلات، كما خلقت أوهاما لدى بعض الأطراف الإقليمية والدولية، وقد جاءت هذه الزيارة لتضع بعض النقاط على الحروف.

وصل أوباما والوفد المرافق معه الذي يشمل وزير الخارجية جون كيري ومستشارة الأمن القومي سوزان رايس، والسعودية بحجمها وثقلها الدولي والإقليمي تعيش مرحلة جديدة بترتيب بيت الحكم وتثبيت استقرار الدولة بآليات معلنة ومحكمة، وبتوافق كبير مؤيد لرغبة الملك وولي عهده بالنص على الأمير مقرن بن عبد العزيز وليا لولي العهد، وهم الثلاثة الكبار الذين حضروا المحادثات بين الطرفين، وكذلك بتوحيد جبهتها الداخلية بقرارات أدانت جماعات الإرهاب وتنظيماته، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، وبسعي حكيم وجاد في الآن ذاته لإعادة ترتيب منظومة مجلس التعاون الخليجي، وهي تقود إقليميا تحالفا قويا مع مصر والإمارات العربية المتحدة والكويت والبحرين والأردن والكثير من الدول العربية، وهي تقود الموقف الدولي تجاه الأزمة السورية بمواقف وسياسات معلنة كانت هي السابقة فيها ولم تزل تواصلها، كما أنها عززت تحالفاتها الدولية بزيارة ولي العهد الأمير سلمان لأربع دول شرقية، هي باكستان واليابان والهند والصين، وما تمخض عنها من اتفاقيات، بل حتى في التواصل مع أميركا نفسها، حيث زار وزير الداخلية محمد بن نايف واشنطن أخيرا، وكذلك فعل نائب وزير الدفاع.

العلاقات بين البلدين، كما هو معلوم، علاقات استراتيجية ضاربة في التاريخ منذ ثمانية عقود، حيث رسخ الملوك السعوديون والرؤساء الأميركيون المتعاقبون حلفا استراتيجيا وثيق العرى كان قادرا على الدوام على تجاوز المشكلات والأزمات التي مرت بالدولتين طوال هذه المدة من الزمن، والحديث في قمة خريم لم يكن عن استحضار التاريخ بل عن تحديات الواقع، ولا عن الماضي بل عن الحاضر والمستقبل، والملفات كثيرة، كالملف النووي الإيراني وملف أدوار إيران التخريبية في المنطقة والملف السوري بكل تفرعاته والملف اليمني وملف الإرهاب، وغيرها الكثير من الملفات التي تفرض الواقعية السياسية تبصر مواضع الاتفاق وتعزيزها ومواطن الخلاف وتحجيمها.

في الملف النووي الإيراني أثارت واشنطن شكوك الرياض بذهابها لمفاوضات سرية مع إيران ووصولها لاتفاق غير مكتمل وغير ضامن لأمن السعودية ودول الخليج، وهي شكوك مستحقة بحيث لم يبد بعد أي أثر إيجابي لذلك الاتفاق، وقد سعى أوباما لتقديم تطمينات للملك عبد الله بأنه لن يقبل «باتفاق سيئ مع إيران»، والأهم من هذا أن الإشارة تكررت للملف الذي تتبناه السعودية من أن الخلاف مع إيران لا يكمن في الملف النووي فحسب، بل في رعاية ودعم الجمهورية الإسلامية في إيران لكل الحروب والاضطرابات وحركات الإرهاب في المنطقة، بما يشمل الملف السوري والملف اليمني وحزب الله اللبناني وحركة الحوثي وتنظيمات القاعدة في سوريا واليمن والسعودية والعراق، وهو ما يبدو أن أوباما سعى لإيضاحه بحسب تصريح مسؤول أميركي نقلته هذه الصحيفة في عدد أمس السبت، حيث جاء في الصحيفة أن «أوباما حرص على توضيح موقف بلاده من إيران وأن العمل على اتفاق حول برنامج طهران النووي لن يعني عدم الاهتمام بدور إيران المزعزع لاستقرار المنطقة».

اختلافات الرؤى والمواقف تجاه ملفات المنطقة وضعت حقائق على الطاولة قبل الزيارة، فقد أصابت السعودية في رؤيتها وسياساتها تجاه ما كان يعرف بالربيع العربي ولم تصب إدارة أوباما، وأصابت السعودية في أن الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين في السلطة سيكونون مظلة لتنامي حركات الإرهاب وتنظيماته وأخطأت الإدارة في اعتقادها أن دعم الإسلام السياسي سيقضي على الإرهاب، ونجحت السعودية في دعم الشعب المصري والجيش في استعادة الدولة المصرية من خاطفيها وأقرت الإدارة بفشلها إن لم يكن بالقول فبالقرارات والمواقف تجاه الواقع الجديد الذي فرض نفسه هناك، وغيرها الكثير من القضايا التي كانت محل خلاف بين الطرفين واتضح فيها وجه الصواب.

الخلاف بين الحلفاء لا يعني الشقاق، والاختلاف يؤكد الندية بين الدول، وقد بات مهما معرفة أن سياسات الانعزالية الأميركية القديمة التي أحياها أوباما لم تضعف الحلفاء الأقوياء القادرين على حماية مصالحهم، كالسعودية ودول الخليج واليابان وغيرهم؛ لأنهم ببساطة ليسوا كأوكرانيا التي لم تزل ضعيفة واقتطعت منها جزيرة القرم بضمها لروسيا في صمت دولي يشير لطبيعة التصاعد والتنازل بين القوى الدولية الكبرى الذي ربما يذكر بوجه ما بما جرى عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية في مدينة برلين الألمانية التي ظلت مقسمة لعقود.

إن السعودية بحجم اقتصادها وقوة تأثيرها على أسواق الطاقة في العالم وبمكانتها الدينية في العالم الإسلامي، حيث هي بلد الحرمين ومهبط الوحي ومهوى أفئدة الشعوب، بما يترجم لقوة سياسية معتبرة، وبقيادتها لحماية مصالح الدول والشعوب العربية وبدورها الرائد عالميا في محاربة الإرهاب، قادرة على حماية مصالحها ومصالح شعبها وحلفائها أمام أي اختلالات في توازنات القوى الدولية، ولمعرفة أوباما وإدراكه لهذا كله جاء زائرا موضحا مطمئنا ومحاورا.

التحالفات الاستراتيجية لا تؤثر عليها قرارات إدارة أو خيارات رئيس؛ فهي تظل أعمق في التاريخ وأرسخ في الواقع، وهي تفرض التفهم لخيارات كل طرف، ومن هنا فإن أوباما وهو قائد أقوى دولة في العالم لم يأت معتذرا ولكنه جاء بمعرفة جديدة تجاه القضايا الخلافية وبإقرار بأهمية السعودية وبصوابية مواقفها وقراراتها.

المؤشرات الإيجابية للمحادثات بين الدولتين والقائدين كثيرة ومتعددة ويمكن استحضارها بسهولة من تصريحات المسؤولين والدبلوماسيين وبالذات من الطرف الأميركي، وهي مؤشرات من الطبيعي أن تخرج بعد قمة كهذه وتبقى التغيرات في المستقبل والنتائج المتوخاة هي الحكم الحقيقي على حجم هذه الإيجابية ومدى تأثيرها واستمرارها.

ما يقوله التاريخ هو أن أميركا حين تخلت عن «الانعزالية» كانت أكبر مساهم في تعزيز العلاقات الدولية وبناء نظام دولي أكثر عدالة كـ«عصبة الأمم» والانتصار في «الحرب العالمية الثانية» وبناء «منظمة الأمم المتحدة» وصولا للانتصار في «الحرب الباردة»، وهي أدوار شاركت السعودية في الكثير من تفاصيلها وأحداثها.

أخيرا، فإنه بعد هذه الزيارة ستلتقي الأسئلة بأجوبتها، والشكوك بيقينها، والأوهام بما يدفعها.

[email protected]