الأمان الثقافي الخليجي

TT

الدين الذي يشكل المكون الثقافي الأكبر في الثقافة العربية، تدور حوله أغلب دعوات التغيير الاجتماعي والسياسي، فهناك دعوات للإصلاح بالدين، تقوم رسالتها على اعتبار أن الدول العربية بكل مجتمعاتها لا تمثل الحالة الصحيحة للإسلام، أي إن الطريق الذي يجب أن يسلك هو تغيير القوانين والأعراف بالمزيد من التدين، أما الدعوة الثانية فتقدم رسالتها ضمن موضوع الدعوة الأولى، لكنها تختلف فقط في طبيعة الخطاب، حيث تظهر تسامحا أعلى وتميل إلى تصوير الحالة الاجتماعية بأنها مجرد حالة متكاسلة عن الالتزام الكامل بالأوامر والنواهي الشرعية، وفي فترة متأخرة نسبيا ظهرت دعوة ثالثة تتجه تماما إلى حرية المعتقد، وإلى أن صالح الدولة هو في سن القوانين المدنية، بكل ما تحمله هذه القوانين من حياد تجاه الإيمان.

هذه الدعوات الثلاث للتغيير لا تختلف إلا في الدرجة فقط، لكنها جميعا تدور حول موضوع واحد، فكيف يمكن البحث عن مكونات أخرى تساعد على تفعيل حركة تغيير حقيقية تستهدف الثقافة الاجتماعية في أساس نظامها المعرفي وفضاءاتها الفكرية وليس في ظواهرها فقط.

رغم صعوبة التساؤلات، فإن الإمكان الذي يفترض البدء به هو البحث عن مكونات ثقافية للمجتمع لم تدر حولها أي دعوة ولم تشكل موضوعا في الفضاء العام، البحث في التاريخ الثقافي والاجتماعي للمنطقة واستثمار الغائب منه هو الباب الكبير للخروج من الإطار الديني بسقفه المنخفض. دعوات التغيير الاجتماعي، تحديدا، لا يمكن أن تنجح وهي تتعامل مع المجتمع الخليجي كأنه وليد الدولة الحديثة، الثقافة الاجتماعية بكل مكوناتها هي الأقدم في الوجود قبل تشكل ونشأة أي إطار سياسي حديث، بل إن قيام الدولة الحديثة بكل ظروفها لا يمكن فهمه خارج سياق اللحظة الاجتماعية السابقة، والتقاليد والأعراف العريقة التي حكمت المنطقة ولم تكن محكومة بالدين والمعتقد فقط، الظرف الاقتصادي كان ولم يزل يشكل أكبر عامل في طبيعة الثقافة المحافظة لمجتمعات المنطقة، تماما كما لعبت الثروة النفطية أكبر دور في تشكيل الفضاءات العامة والخاصة بعد تأسيس الدولة الحديثة.

وقعت دعوات التغيير في فخ التاريخ الحديث، وفي فخ الموضوع الواحد تحديدا، فمثلا، لا تزال مختلف دعوات التغيير في بعض البلدان تقيس الحالة الاجتماعية على لحظة الثمانينات كبداية لحركة الصحوة الدينية. لقد اقتصرت الدعوات التنويرية على تحليل وتفكيك الثقافة الاجتماعية المتعصبة باعتبارها وليدة التوقيت الصحوي فقط، لم يعد التحليل لظواهر المجتمع يقرأ النظام القبلي التاريخي الذي يستحكم في كل مفاصل السياسي والشعبي، ولم يعد التنوير ينشغل بالتمظهرات الجديدة لتكون القبيلة بوصفها مكونا تاريخيا عميقا للثقافة الاجتماعية، بل ظل عالقا في لحظة واحدة فقط، مهما كانت قوة تأثيرها، هي لا يمكن أن تلغي تماما ما سبقها.

الحديث عن دعوات لتغيير الثقافة الاجتماعية يستوجب التنويه إلى المخيال الشعبي كرأس مال فكري، هذا المخيال لدى شعوب المنطقة يكاد ينقطع تماما عن التاريخ السابق لقيام الدولة الحديثة. تكوين الهوية الحديثة يحتاج إلى أن يرتكز على كامل الإرث الذي تحمله الأرض، وتاريخ الجزيرة العربية أصبح اليوم يخص شعوب المنطقة وحدهم بأحقية جغرافية، ومجموع الحضارات التي قامت داخل هذه الحدود فيما مضى هي إرث الإنسان الخليجي، وإنعاش الانتماء لها كجزء من التاريخ لشعب هذه الدولة الحديثة مطلب أساسي، فيجب ألا يتم تجاهل كل هذا عند التصدي لأي محاولة تغيير اجتماعي وعند الحلم بأي عمل تنويري حقيقي.

الإنسان الخليجي يحتاج لكي يحقق وجوده الكثير من التحرر، والتحرر ليس سبيلا لرفع شعار المطالب السياسية فقط، بل هو عمل عميق يستهدف هذا الإنسان في تعليمه وتربيته وفي عمله وفي جميع شؤونه، ولا يمكن لهذا التحرر أن يثمر إذا ما كان الإرث النفسي والمعرفي للمواطن الخليجي غائبا عن وعيه، لا يمكن أن تتحرر أي ثقافة اجتماعية من قيودها السلبية ومن أعرافها الظلامية إذا ما ظلت تعيش تحت حكمها ولا تعرفها، لا تستطيع تسميتها لتتمكن من رفضها، المواطن الخليجي يحتاج ما هو أكثر من التعليم والعمل والتنمية الاقتصادية والبشرية، هو بحاجة لوعي جماعي يواجه كل قيود اللاوعي، هو بحاجة ثقافة اجتماعية قادرة على التعايش مع عالمه اليوم، ثقافة قادرة على تشكيل هوية راسخة، هي الأمان الذي لا يزعزعه أي خطاب مهما كانت قوته، وما يحدث اليوم من مخاوف على الأمن الخليجي من عبث البعض، لن يتم ردعه طالما ظلت الحركات التنويرية تراوح مكانها حول ذات الموضوع، غير مدركة كل أبعاد الصورة الكبيرة لمنطقة بحجم وأهمية المنطقة الخليجية.

* كاتبة سعودية