إيران وسوريا.. بين الشعار ومرارة الواقع

TT

مع بداية الانتفاضات الشعبية في البلاد العربية، بغض النظر عما أدت إليه، بدا أن وقوف إيران إلى جانب هذه الحركات الشعبية وتأييدها يعتبر أمرا طبيعيا، خاصة ما يتعلق منها بالأحداث المصرية، محكوما بالصراع الخفي الذي كان قائما بين إيران ومصر على خلفية الموقف الآيديولوجي الظاهري الذي أعلنه مؤسس النظام الإسلامي في إيران الإمام الخميني منذ عام 1979 بعد انتصار الثورة المتعلق باتفاق السلام الموقع بين مصر وإسرائيل في كامب ديفيد، ومدفوعا بالمساعي الإيراني لإخراج مصر من دائرة القرار العربي والإسلامي والدولي والحد من تأثيرها على قضايا الشرق الأوسط، خصوصا في فلسطين، وما تشكله من شريك داعم لتوجهات السعودية الإقليمية.

ولم يكن مستغربا أن تقف إيران بكل ما لها من قوة خلف المظاهرات الشعبية التي خرجت في البحرين، لاعتبارات متعددة ليس أقلها السعي لاستعادة تأثيرها التاريخي في هذه المنطقة.

ولم يكن مستبعدا أيضا أن تمد يدها إلى الأزمة اليمنية انطلاقا من الخلفية ذاتها التي حكمت البعد الاستراتيجي لتدخلها في البحرين، أي استهداف الدور السعودي على معطيات تختلف عن معطيات التدخل في البحرين.

وقد سعت مؤسسات النظام الإسلامي في إيران لتأكيد الطابع الإسلامي للانتفاضات التي وقعت في العالم العربي، وحاولت وضعها في سياق تأثيرات الثورة الإسلامية الإيرانية من خلال استغلال المصطلح الذي أطلق على هذه الانتفاضات وتحويله من ربيع عربي إلى ربيع إسلامي. وقد جهدت في إقامة المؤتمرات والندوات لتدعيم هذه الفكرة، واستقبلت على أرضها ناشطين من مختلف الدول التي كانت مسرحا لهذه الحركات الشعبية.

متابعة لهذا السياق من التعامل والتعاطي، من المفترض، وبناء على الدستور الإيراني الذي ينص على دعم حقوق الشعوب ومطالبها المحقة بوجه الظالمين والطاغوت، أن يكون موقف النظام الإيراني من الحراك الشعبي السوري مشابها لموقفها من أي حراك شهدته البلدان العربية.

الموقف الإيراني، وعلى العكس من المتوقع، كان مفاجئا في تعاطيه وموقفه من الحراك السوري الذي بدأ سلميا رافعا لشعار الحرية والكرامة والديمقراطية، قبل أن يتحول إلى شعار تغيير النظام والمطالبة برحيل الرئيس، مرورا بحمل السلاح دفاعا عن النفس أمام أجهزة النظام وقواته، وصولا إلى المواجهة العسكرية المفتوحة ليس فقط بين النظام والفصائل المعارضة المسلحة، بل بين أقطاب إقليميين ودوليين.

فإيران، ومنذ بداية الحراك السوري، اتخذت موقفا مغايرا لموقفها من الانتفاضات العربية، اعتبرت ما تشهده سوريا ليس سوى «مؤامرة أميركية وغربية بمشاركة عربية» تستهدف ضرب محور المقاومة والممانعة، في سياق يستكمل الأهداف الإسرائيلية الساعية لمحاصرة الطموحات الإيرانية في المنطقة.

وانطلاقا من هذه القراءة، تحول الحدث السوري إلى مؤامرة، وأصبحت الأزمة السورية مسألة استراتيجية للقيادة الإيرانية ترى فيما يحدث استهدافا مباشرا لطهران وحلفائها، فاستنفرت كل مؤسساتها ووضعت شروطا قاسية أمام التعاطي الإعلامي الداخلي مع التطورات التي تشهدها المدن السورية والأعمال التي يقوم بها النظام ومؤسساته العسكرية. وقد تولى الأمين العام لحزب الله في لبنان مهمة الدفاع عن القرار الإيراني في الوقوف إلى جانب نظام الأسد، فكان أوضح وأفضل من دافع عن هذا القرار ورئيسه معتبرا أن الدفاع عنه يصب في إطار الدفاع عن المقاومة وحماية لظهرها.

ولعل حديث حسين طائب رجل الدين المقرب من المرشد الأعلى للنظام عما تشهده سوريا، كان خير تعبير عن الرؤية الإيرانية ومدى إحساسها بخطورته الاستراتيجية، عندما اعتبر أن «الدفاع عن دمشق هو دفاع عن طهران، وأن استعادة الأهواز إذا احتلها العدو سيكون سهلا وسوريا إلى جانبنا، أما إذا سقطت دمشق فسيكون من الصعب علينا الدفاع عن طهران».

الوقوف الصارخ لإيران إلى جانب النظام السوري وضعها في مواجهة أخلاقية ومنهجية مع البعدين الإنساني والآيديولوجي على المستويين الداخلي الإنساني والخارجي الإسلامي.

ففي البعد الإنساني، كانت في مواجهة سؤال جوهري وأساسي، إذ كيف يمكنها تسويغ عمليات القتل والتدمير التي يقوم بها النظام ضد المدنيين من أطفال ونساء، قبل أن يقدم له تنظيم القاعدة الغطاء الذي سعى وراءه ومنحه ورقة محاربة الإرهاب.

وفي البعد الإسلامي، كيف لإيران وهي دولة إسلامية أن تقف إلى جانب نظام ديكتاتوري يقتل جماعة إنسانية مسلمة في سوريا، من أجل الحفاظ على نظام قائم على القمع والقتل، وهي في ذلك لا تختلف عن حليفتها روسيا التي ترجح المصالح والحفاظ عليها على الإنسان. وهذا لا يعني أن ليس للآخرين مصالح يدافعون عنها ويقاتلون من أجلها ويقتلون.

هذه الإشكالات والإشكاليات، وهذه الأسئلة والتساؤلات، لم يكن ولم يعد طرحها مقتصرا على المراقبين من خارج إيران، بل كانت قد شكلت مادة لبحث يومي داخل الطبقات الاجتماعية الإيرانية الفكرية والأكاديمية، التي كنت شاهدا على ما دار فيها من جدل كانت المحاور السابقة مادة نقاشه.

الانقسام حول الأزمة السورية والموقف منها لم يعد أمرا يمكن إخفاؤه في إيران، ولم يعد مقتصرا على معسكر المعارضين الذين راهنوا على التغيير في سوريا، الذي سيفرض ويستتبع تغييرا في إيران أو يدفع النظام ليكون أكثر استجابة لمطالب التغيير الداخلي، ويحد من تنامي مسار عسكرة النظام.

فالمتمسكون بالرؤية الاستراتيجية الإيرانية ينظرون وما زالوا مصرين على اعتبار الأحداث في سوريا استهدافا لموقع ودور إيران في المنطقة، ومؤامرة تريد ضرب محور الممانعة من فلسطين، وصولا إلى أفغانستان، وهم وإن كانوا من الأكاديميين، إلا أنهم محكومون بخلفيتهم العسكرية التي أتوا منها عندما كانوا جزءا من مؤسسة حرس الثورة وقراءتهم الجيوسياسية والجيوستراتيجية للتطورات الإقليمية، خاصة السورية.

في المقابل، لا يخفي كثير من هؤلاء الأكاديميين أسفه مما آلت إليه الأمور في سوريا، وموقف بلاده من الأزمة فيها، ويرى أن انفصاما واضحا بين ما جاء في دستور الجمهورية الإسلامية من تأكيد على المطالب المحقة لكل الشعوب المستضعفة في العالم، وما هو معلن من سياسات ومواقف للنظام الإسلامي في الأزمة السورية. وكأن ما نؤمن به في الدستور، حسب تعبيرهم، لا وجود له على أرض الواقع، وأن إيران تحولت إلى دولة تقف وتدعم الأنظمة القائمة والموجودة، خاصة في محيطها، على حساب مطالب الشعوب وحريتها وكرامتها، وأنها تطبق مقولة «مع الأنظمة ضد الشعوب».

الحوار الأكاديمي انتهى إلى تمني طرفي النقاش يوما تعود فيه إيران إلى سابق عهدها، وما جاء في دستورها، فتقف إلى جانب المظلوم والشعوب ومطالبها، لأن في ذلك مصلحة لها، تعزز دورها الذي تحاول الآن أن تبنيه على حساب هذه الشعوب، وخشيتهم واضحة من أن يكون قطار العودة إلى صف الشعوب قد فاتها، عندها لا يمكن التعويض وتتضاعف الخسارة.