تاريخنا بين النزاهة والفساد

TT

في هذه الأيام التي شاع فيها الفساد والسرقات والرشوة في معظم بلدان الشرق الأوسط، وأكثرها من مخلفات الحكم العثماني، علينا أن نتذكر أن هذه ظاهرة حديثة نسبيا في تاريخنا العربي، كما يبدو لي. فبينما تغص الأدبيات والفلكلوريات المعاصرة بوقائع وطرائف وقفشات الفساد، لا نكاد نجد الكثير من ذلك في تراثنا العربي، بل بالعكس، وجدت أدبياتنا الكلاسيكية حافلة بالإشارات إلى الحرص على النزاهة والاستقامة.

ما علينا غير أن نتذكر كيف عزل الخليفة عمر بن الخطاب ذلك القائد البارع الذي نتباهى به، خالد بن الوليد، من منصب القيادة وجيوش المسلمين على وشك خوض أهم معركة ضد الروم، معركة اليرموك. دون الالتفات لقيمته وقامته، وكان الخليفة العادل قد وضع بفعله هذا النزاهة والعدالة قبل الانتصار في الحرب.

كنت أتصفح هذا الكتاب الجليل الموسوعي «البيان والتبيين» لشيخنا ومعلمنا أبو عثمان الجاحظ، فلفتت أنظاري فيه هذه القطعة التي أشار فيها إلى صرامة الخليفة عبد الملك بن مروان في محاربة الفساد. وكم يحلو لي أن أورد القطعة بنصها لما فيها من براعة القول وبلاغة الكلمات، بالإضافة لمدلولها السياسي والإداري. قال:

«كان عبد الملك بن مروان شديد اليقظة، وكثير التعهد لولاته. فبلغه أن عاملا من عماله قبل هدية، فأمر بإشخاصه إليه. فلما دخل عليه، قال له: أقبلت هدية منذ وليتك؟ قال له: يا أمير المؤمنين، بلادك عامرة وخراجك موفور ورعيتك على أفضل حال. قال: أجب فيما سألتك عنه: أقبلت هدية منذ وليتك؟ قال: نعم. قال: لئن كنت قبلت هدية ولم تعوض إنك للئيم.

ولئن أنلت مهديك لا من مالك، أو استكفيته، ما لم يكن يستكفاه، إنك لجائر خائن. ولئن كان مذهبك أن تعوض المهدي إليك من مالك، وقبلت ما اتهمك به عند من استكفاك، وبسط لسان عائبك وأطمع فيك أهل عملك، إنك لجاهل، وما فيمن أتى أمرا لم يخل فيه من دناءة أو خيانة أو جهل مصطنعٌ».. ونحاه عن عمله.

بالطبع لربما يخطر لقارئ أو ناقد مفطور على الشك أن يقول: هذه كلمات أديب بليغ في صناعة الكلام، أبو عثمان الجاحظ، فمن كان في حضور مجلس الخليفة ودوّن بقلمه كلام أمير المؤمنين ووثقه كما سمع؟ قد يقول ذلك أي باحث ثاقب الرأي ولكنه لن يقصيني عن فحوى الكلام، وهو أن خليفة المسلمين لم يكن من شأنه أن يسامح عماله على ما يقعون فيه من فساد.

والإشارة إلى استحضار العامل إليه من أقاصي الأرض لمحاسبته شخصيا لدليل على ندرة ما كان يقع في هذا السياق. أنا واثق لو أن شيخنا الجاحظ سمع شيئا في خلاف ذلك، وهو عباسي والخليفة أموي، لما تردد في سرده وضمه إلى ما سطره من كلام.