روسيا القومية.. آيديولوجية بوتين الجديدة

TT

قال الرئيس الأميركي باراك أوباما في بروكسل الأربعاء قبل الماضي في وصف النظام العالمي الجديد، كما يراه بعد تشاوره مع بقية قادة الناتو، في مرحلة ما بعد شبه جزيرة القرم: «إننا لا ندخل حربا باردة جديدة، فخلافا للاتحاد السوفياتي لا تقود روسيا كتلة من الأمم وليست لها آيديولوجيا عالمية».

مؤكد أن الرئيس فلاديمير بوتين سيسعى سعيا حثيثا ليكون مختلفا، وخلال السنتين الماضيتين تكونت آيديولوجيا جديدة في الكرملين، وظلت تتردد بإصرار عبر قنوات التلفزيون الرسمي وعرفت بفكرة روسيا القومية، وهي القوة الدافعة خلف الصورة العدوانية الدولية الجديدة لروسيا؛ فروسيا تعيد تهيئة نفسها لتكون قائدة للعالم المعادي للغرب.

وأكد بوتين هذه الآيديولوجيا في خطابه الفيدرالي السنوي أمام البرلمان في ديسمبر (كانون الأول). وهذه وحدها رواية؛ فخلال 13 سنة مضت من قيادته ظل بوتين متمسكا بالبراغماتية والذرائع في خطاباته. والآن هو يقدم رؤية طالما اشتاق إليها الروس خلال قرابة ربع قرن منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تاركا فجوة ضخمة حيث كانت هويات مواطنيه. قال بوتين في خطابه إنه ليس لروسيا طموحات قوى عظمى بمعنى «ادعاء الهيمنة العالمية أو الإقليمية»، لكنه قال مع ذلك: «سنسعى سعيا حثيثا لنصبح قادة». وفي معرض شرحه لهوية روسيا الجديدة وعلاقتها مع الغرب وادعائها الزعامة قال بوتين: «هذا أمر موضوعي ومفهوم تماما بالنسبة لدولة مثل روسيا، بما لها من تاريخ وثقافة عظيمين وعدة قرون من الخبرة وليس مما يطلق عليه التسامح الجدب، بل الحياة العضوية لشعوب مختلفة تعيش معا ضمن إطار دولة واحدة». وضع بوتين أسلوب روسيا للحياة في تعارض مع الأسلوب الغربي. فما ذكر و«يطلق عليه التسامح» كميزة أساسية للحضارة الغربية من منظوره لا تعني شيئا سوى انحدار نحو اللاأخلاقيات.

وأضاف قائلا: «تراجع الكثير من الأمم حاليا قيمها ومعاييرها الأخلاقية مما يؤدي إلى تلاشي التقاليد العرقية والاختلافات بين الشعوب والثقافات، ليس على المجتمع اليوم مجرد الاعتراف بحق الجميع في حرية الضمير والآراء السياسية والخصوصية فحسب، بل على المجتمع أيضا قبول تساوي الخير والشر من دون شك، مهما بدا ذلك غريبا وبدت مفاهيم تتعارض في معناها».

وأخيرا قال بوتين إنه آن أوان مقاومة هذه الكارثة التي يطلقون عليها «التسامح والتنوع» الزاحف من الغرب، ثم أكد: «إننا نعلم أن هناك الكثير والكثير من الناس في العالم يؤيدون موقفنا في دفاعنا عن قيمنا التقليدية»، ودور روسيا الآن هو «منع الاتجاه إلى الخلف أو الانحدار إلى الأسفل نحو الظلام الفوضوي والعودة إلى الدولة البدائية».

باختصار يريد بوتين إنقاذ العالم من الغرب. بدأ بشبه جزيرة القرم حيث قال إنه يحمي المواطنين من أصل روسي في أوكرانيا، وهو يعني أنه يحميهم من الكثير من الأمور الفظيعة الآتية من الغرب. وعرف أليكسي بوشكوف رئيس لجنة الدوما للعلاقات الخارجية ذلك التهديد بعد أيام من خطاب بوتين في المجلس بقوله: «يقوم مستشارو الاتحاد الأوروبي فعليا في كل وزارة باختلاف أهميتها بالتحكم في تدفق الأموال والبرامج الوطنية وتوسيع مجال (ثقافة شاذة) أصبحت سياسة رسمية للاتحاد الأوروبي». وبعد ثلاثة أشهر هذا ما يراه بالضبط الروس في أوكرانيا: الغرب يحل محل روسيا والقوات الروسية هي وحدها القادرة على الوقوف بين مواطني البلد السلافي الغافلين والمسيرات المؤيدة للشذوذ الآتية من بروكسل.

لا تقود روسيا حاليا كتلة من الأمم في هذه الحملة الجدية المعادية للغرب، ليس بعد على الأقل، لكنها ليست وحدها بالتأكيد في تشوقها إلى «القيم التقليدية». ظلت روسيا تجمع كتلة غير رسمية من «القيم التقليدية» في الأمم المتحدة، حيث أجاز مجلس حقوق الإنسان سلسلة من القرارات التي رعتها روسيا التي تعارض الشذوذ والعلاقات الشاذة خلال السنوات الثلاث الماضية. ولا يقتصر حلفاء روسيا في إجازة هذه القرارات على جيرانها من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، ولكن أيضا الصين والإكوادور وماليزيا وأكثر من 12 دولة أخرى.

إن تلك الأجندة تبدو مثل قاعدة ضعيفة لتشكيل حلف عالمي من الدول، لكن سيكون لتلك الأجندة فرصة توحيد أكبر عندما تتشكل على أساس أوسع من معاداة الجهود الغربية، وهي بالفعل مهمة حضارية.

تلك المهمة، وهي أكبر من مجرد الرغبة في قضم قطعة من دولة مجاورة، هي القوة الدافعة خلف حرب بوتين الجديدة وسبب دعم الشعب الروسي القوي لذلك. وهم لا يأملون أن تجعل تلك الحرب من روسيا دولة قوية فحسب، بل أن تجعلها دولة عظمى من جديد.

* خدمة «واشنطن بوست»