الاستعراض الكبير!

TT

يبدو أن السباق الرئاسي في مصر سيكون بين عبد الفتاح السيسي وحمدين صباحي رغم وجود مرشحين آخرين، إلا أن التنافس من الواضح جدا سيكون محصورا بين الاثنين. وأطلق كل منهما حملته وشعاره وموقعه الإلكتروني وصورته الرسمية وعدد أفراد فريقه الانتخابي الذي سيتحدث عن الحملة. ولكل منهما مؤيدون، ولكل منهما أعداؤه وخصومه، إلا أن الغريب في الأمر أن هناك تنافسا من الفريقين على ارتداء «قميص» عبد الناصر لما لدى الرئيس المصري الراحل من كاريزما وحضور مستمر في الأوساط الشعبية التي تم «بيع» فكرة البطل الشعبي ابن البلد لها، وتم «تفصيل» الدور على مقاس عبد الناصر عبر الأزمان إعلاميا. فأنصار عبد الفتاح السيسي يرفعون صورته العسكرية بجوار صور عبد الناصر بالزي العسكري، بينما يرفع أنصار حمدين صباحي صورا أخرى له بجوار عبد الناصر بزيه المدني. والحقيقة أن هذا أمر يدعو للتعجب؛ «فإنجازات» جمال عبد الناصر العسكرية لا تدعو للفخر أبدا؛ فهو كان المسؤول الأول عن هزيمة عام 1967، كما تسبب في ضياع سيناء والقدس وغزة والضفة الغربية والجولان لأنه كان قد قرر سلفا أن قيادة الجيش هي من حق رفيق عمره عبد الحكيم عامر، الذي كان وراء انفصال سوريا بعد وحدة بين البلدين لم تدم طويلا. ولكن جمال عبد الناصر لم يتعظ واستمر في تسليمه مسؤولية القوات المسلحة المصرية وإدارتها وحدث ما حدث، ناهيك عن حرب اليمن التي تسببت في فقدان مصر من احتياطيها من مخزون الذهب الذي أنفق على شراء السلاح والمعدات العسكرية في حرب لا ناقة لأحد فيها ولا جمل. أما «إنجازات» نظام عبد الناصر فهي المعتقلات وأجهزة المخابرات ومراقبة الناس بعضهم لبعض، والاعتداء على أرزاق الناس بشتى الوسائل تحت اسم التأميم، وتأزيم العلاقات مع معظم الدول العربية والتدخل السافر في سياستها وشؤونها الداخلية بشكل سمح باستنساخ الكثير من أنظمة عبد الناصر في بلادها، وما صدام حسين والقذافي ونميري وعلي عبد الله صالح وغيرهم إلا نماذج من ذلك المشهد البائس.

السباق الرئاسي انطلق، وكل فريق يستعد بالوسائل المتاحة لتقديم مرشحه على أنه الأصلح والأنسب لقيادة مصر في المرحلة القادمة. إنه صراع على الجماهير وعلى الشارع، وهناك فارق بين الصراع على «الشعب» للحصول على القبول منه والصراع على «الجماهير» للوصول إلى قلوبها.

الشعب هو مجموعة من الأشخاص يعيشون في شكل متجانس من العادات والطباع والثقافات داخل مجتمع واحد وعلى أرض واحدة، وهم يشكلون أسلوبا في التعامل البيني الذي يكون تركيبة مميزة له، وكل حكومة، أو نظام، تستمد شرعيتها من رضا شعبها عليها، فإذا انتفى هذا الرضا كانت بالتالي حكومة غير شرعية مهما قمعت وفرضت كل نفوذها بالقوة على من تحكمهم.

أما الجماهير فهي حشود «غفيرة» من الناس تجمعت لمتابعة حدث ما بطريقة معروفة، وعادة ما يكون هذا الأمر إما فنيا أو رياضيا أو خطابيا، وبالتالي أصبح هناك تخصصات لتحريك الجماهير لتحويلها إلى «قوى» مؤثرة في الشارع لتصبح واقعيا مشكلة مؤثرة في توجهات الشعب نفسه، وهي مسألة أصبحت موجودة بشكل أكثر احترافية في الديمقراطيات الغربية، وخصوصا في طريقة استخدامها لوسائل الإعلام وقدرتها على صياغة الصورة الذهنية، ومن ثم ترويجها وبيعها للناس. فبينما لا تزال صناعة الجماهير في العالم الثالث تعتمد على مجموعة من «المصفقاتية» ومن «الهتيفة» الذين يوظفون بمهارة لإلهاب حماسة الناس وصناعة القائد والزعيم وإطلاق هتافات حماسية رنانة من فصيلة «بالروح والدم»، يقوم الإعلام الغربي بعمل كل ذلك ولكن بشكل أكثر أناقة وأكثر فعالية، وهي وسائل أشبه بالاستعراض المبهر، فعندما يتم حشو خطابات جماهيرية بكلمات محددة تكون إشارة «للهتيفة والمصفقاتية» لينفجروا بين أوساط الناس ليخرجوا منهم التعامل العاطفي المطلوب والمنشود، وهو أشبه بهتافات مدرجات الدرجة الثالثة في اللقاءات الجماهيرية الكبرى في مباريات كرة القدم وتفاعلها مع «اللعبة الحلوة» أو «ترقيصة آسرة» للهداف النجم الكبير، وكل هذه الأدوار هي أعمال ليست بحاجة إلى مجهود استثنائي ولا إلى مؤهلات خارقة سوى صوت عال جدا وكفين لا يتعبان، وطبعا عقل مغيب لا يفكر.

المشهد السياسي في العالم الثالث تحول إلى استعراض شعبي فيه الكثير من المشاهد الفكاهية والساخرة الأقرب لأن لا تصدق ولكنها حقيقة، فكما في الرياضة، السياسة هي الأخرى استغلت وجود طبقة من المنتفعين منها الذين يسيرون الجماهير، فبينما تهتف جماهير لنجوم الكرة من قلوبهم وهم سعداء أو لمطربيهم المفضلين وهم مستأنسون طربا، يهتفون للساسة بما يملأ جيوبهم وهم مكرهون. وفي الحالتين هو استعراض كبير!