عالم واحد أم عوالم متعددة؟!

TT

كم عدد المرات التي استمعت فيها إلى أن العالم قد بات قرية صغيرة، متشابكا ومترابطا بقوة ثورة المعلومات وحركة التجارة والاقتصاد وانتقال الناس والبضائع والثقافة والقيم بأشكالها المختلفة؟! المؤكد أن ذلك تكرر مرارا خلال العقود الأخيرة، وتسارع مع التطورات الهائلة في تكنولوجيا المعلومات والمعرفة، وسوف يكون الناس دائما على استعداد لضرب الأمثلة من أول تشجيع الصغار في قرى الهند أو زنزبار لنادي تشيلسي الإنجليزي، وحتى انتقال خطوط الموضة وتقاليعها بين القارات، وما عليك إلا أن تراقب جماعة من اليابانيين الذين اشتهروا بالتمسك بالتقاليد والأعراف وهم يتسوقون في الأسواق الغربية وترى مدى النهم والشراهة في شراء الماركات العالمية. بالطبع، فإن ارتفاع سعر الين يجعل كل سلع العالم رخيصة، ولكن المسألة ليست السعر، ولكنه الفخر الذي يجعل المرأة اليابانية لا تشعر بأنوثتها إلا وهي تحمل حقيبة «لوي فوتون»، والفتى الياباني لا يشعر بالحداثة إلا وهو يرتدي قميصا عليه علامة «بولو» أو «بيربري». العالم الواحد يزحف بقوة، وشواهده كثيرة وعارمة، وعلامات الماضي تبدو تاريخا كأن تشاهد امرأة ترتدي الـ«كيمونو» في شوارع طوكيو، أو «كاوبوي» في شوارع تكساس. لم يحدث في تاريخ العالم الحديث أن كانت فيه مثل هذه الروابط المؤسسية التي تخلق احتجاجا عالميا ساعة مخالفة من مخالفات حقوق الإنسان في بلد من البلدان، وتجعل التجارة لا تسير إلا من خلال قواعد منظمة التجارة العالمية، ومن كانوا خارجها يبدون في نوع من العقاب الجماعي الذي توقعه البشرية بطرف من الأطراف.

ومع ذلك، لا يبدو العالم على هذه الصورة ساعة استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم، الصورة قديمة وجرت من قبل في القرن التاسع عشر، وتكررت مرات في النصف الأول من القرن العشرين. حكاية الأقليات القديمة التي تستخدم كذريعة للتوسع فعلها هتلر حينما تذرع بالأقليات الألمانية في تشيكوسلوفاكيا وبولندا، واستخدمها في ضم النمسا كلها. واليوم، فإن روسيا بوتين، الممتلئة حتى الحافة بالأقليات المختلفة، تستخدم نفس الحجج، ليس فقط لضم شبه جزيرة القرم ومن قبلها أجزاء من جورجيا، ولكن للتحرش بأوكرانيا لضم شرق البلاد، وكذلك الحال مع مولدافيا وباقي دول البلطيق وآسيا الوسطى. كان ممكنا لبوتين أن يرفع من شأن روسيا بطريقة أخرى، فلديه شعب متعلم، وله طبيعة صناعية، ولكن الديكتاتورية وغياب الحرية جعله يذهب إلى الفضاء ولكنه لا ينتج سيارة قابلة للتصدير. حقيقة الأمر أن روسيا دولة من دول العالم الثالث التي تعتمد على إنتاج المواد الأولية مثل النفط والغاز وتصديرها، صحيح يمكنها الوصول إلى القمر، ولكنها لم تصل إلى العالم الذي تعيش فيه. لا أحد يمكنه تذكر آخر سلعة روسية اشتراها، اللهم إلا إذا كان المرء من العسكريين أو الإرهابيين الذين يعتزون بالأسلحة الروسية. العالم لا يبدو كذلك عندما قام بشار الأسد باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، وعندما أزاح مدنا وقرى بأكملها من الطريق. هذا عالم قديم لا علاقة له بالعالم الواحد الذي ظُنَّ أن البشرية وصلت إلى القرن الواحد والعشرين ومعها دنيا أخرى غير تلك التي عرفتها من قبل. أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 وما بعدها أيقظت الكون كله مرة أخرى على حروب دينية جرى تملقها تحت اسم صراع الحضارات. لم يتغير الكثير من الطبيعة الإنسانية، وظلت قوانين توازن القوى على حالها، والجغرافيا السياسية فرضت نفسها كما حدث دائما. وربما لم يكن عجيبا أن يستيقظ العالم فجأة على وجود «القراصنة» مرة أخرى يعيثون فسادا على السواحل الأفريقية للمحيط الهندي، وبعيدا على الجانب الآخر عند مضيق ملقة. هل أصبح هؤلاء القراصنة في الجو أيضا بعد البحر والبر، وإلا أين ذهبت الطائرة الماليزية المخطوفة؟ في الأسبوع الماضي ظهرت معلومات عن وجود أجزاء من الطائرة في جنوب المحيط الهندي وجدتها أقمار صناعية، بعضها تجاري، وبعضها الآخر للاتصالات، وبعضها الثالث لا نعرف سببا حقيقيا لوجودها في الفضاء الكوني، ولكن هذه الأجزاء كانت تبعد عن بعضها بمئات الأميال، ولا يوجد ما يقطع بأن أيا منها جاء من انفجار الطائرة الغائبة، وحتى لو كان ذلك صحيحا، فما الذي كانت تفعله الطائرة في هذه الأجزاء من العالم وجعلها بدلا من السير شمالا في اتجاه الصين تسير جنوبا في اتجاه القطب الجنوبي. القصة كلها أكثر تعقيدا من ذلك، فالطائرة ذهبت شمالا بالفعل، ولكنها عادت عبر الفضاء الماليزي لكي تذهب غربا في اتجاه الهند، وبعد طيران لمدة سبع ساعات لم يعد لها أثر معروف، وما قيل بمعرفته يعني أنها اتجهت جنوبا بعد أن سارت غربا، وكل ذلك وهي صامتة لا تسمع ولا يستمع لها أحد.

هذه قصص تنتمي إلى عصور قديمة، فأين ذهب العصر الجديد؟ الحقيقة كما تبدو أن هناك عوالم متعددة واقعة بين القديم والجديد، ولا يوجد هناك ما يقطع بأن القديم ينتهي نهاية كلية، والأرجح أن بعضا منه يبقى، وأحيانا في صورة دولة مثل الفاتيكان، أو دعوة مثل عودة الخلافة الإسلامية مرة أخرى بحد السلاح. انظر ما جرى في القاهرة، حيث جاءت ثورة نشبت على صفحات «فيسبوك»، علامة العالم الجديد المتواصل وبطاقة صحوته فكرا وإبداعا، ولكن الثورة جرت سرقتها من «الإخوان المسلمين»، عنوان العالم القديم ودعوته للرجوع إلى الوراء، وحينما انتهى حكم «الإخوان» بثورة أخرى بات الكتاب مفتوحا، ولن تدري أبدا شكل العالم الذي سوف يأتي. صياغة أخرى وهي أن أقلية في العالم عرفت طريقها إلى المستقبل، ويمكنك معرفتها من خلال كم الإبداعات التي تخرج بها على الدنيا كل يوم من مجالات الفضاء إلى الطب إلى التجارة والصناعة، وأغلبية لا تزال على حالها في عالم قديم له نفس الأفكار والقيم. القضية ليست الغنى أو الفقر، فالمسألة ليست أن روسيا أو الصين بلدان فقيران، فهما ليسا كذلك من ناحية، والأرجح أن فقرهما من ناحية أخرى يعود إلى القدرة على إبداع التواصل الإنساني. هنا لن تجد «غوغل» أو «فيسبوك» أو «تويتر» أو «بلومبيرغ» أو فكرة ما يختطفها الكون ويطورها ويعيد إنتاجها ويتوسع فيها حتى تولد فكرة أخرى. سوف تجد سلوكيات تعتمد على القوة في بحر الصين الجنوبي أو شرق أوروبا، ولكن الباقي تجري «استعارته» من الغرب. المسألة فيها بعض من الاختيار السياسي الذي يدفع دولا في هذا الاتجاه أو ذاك، وما يجري في بلادنا بعد العواصف التي مرت بها، ولا تزال تمر، ربما كانت كلها تدور حول هذه القضية الصعبة: الاختيار!