أمن الخليج: الأولويات.. التحديات.. والتحولات!

TT

هل يمكن أن نتحدث عما بعد «زيارة أوباما» عن أولوية صاعدة في التحالفات الإقليمية والتوازنات بين الكتل السياسية الصاعدة في المنطقة؟! المؤشرات التي سبقت الزيارة وتلتها، تؤكد ارتفاع قيمة «الاستقرار» الذي حافظت عليه دول الخليج لتجعل من «أمن الخليج» أولوية أميركية لضمان حد أدنى من الاستقرار النسبي في دول ما بعد الربيع، وهذا ما يفسر التسامح الأميركي تجاه ترشح السيسي الذي هو منجز مصري وعربي على المستوى الداخلي وبقوة دفع وثقل خليجي تقوده السعودية، وهو ما يترشح تكراره في اليمن الذي يعاني من تجاهل المجتمع الدولي بسبب مركزية «قضية سوريا».

زيارة أوباما صعدت من قيمة أولوية الأمن الخليجي على المطالبة بإصلاحات سياسية أو المقايضة بها، وهذا أمر واضح على الأقل في طريقة تعامل إدارة أوباما عنها، فضلا عن التوترات غير المسبوقة داخل دول الخليج. وقد حاولت واشنطن طمأنة شركائها الخليجيين بقوة بمزيد من التفهم والتعقل حول الشأن الداخلي الذي تراه الولايات المتحدة أكثر تعقيدا - وهو كذلك - من منح وصفة إصلاحية خارجية صالحة لكل زمان ومكان ودولة.

أمن الخليج مرتبط بتطوير القطاعات الأمنية والتدريب، وصولا إلى ما بات يعرف الآن بـ«استراتيجيات الأمن المستدام»، وهو تطوير آليات ذات مدى زمني طويل تسهم في تعزيز مفهوم الأمن باعتباره أولوية وتدريب القطاعات الأمنية للارتقاء إلى مستوى التحديات التي تزداد يوما بعد يوم ويأتي الإرهاب على رأسها.

لكن السؤال الذي يبرز الآن في ظل موجة التعقّل تجاه فهم أبعاد المنطقة، إلى أي مدى يمكن عزل أولوية أمن الخليج على المشهد السياسي الإقليمي والطموحات الإيرانية لامتلاك سلاح نووي، وهو الذي ما زالت إدارة أوباما مرتبكة أمامه رغم التطمينات الكبيرة التي تأتي على لسان مسؤولين أميركيين تجاه الوعي بالمخاوف تجاه إيران أثناء المفاوضات معها، وفي ذات السياق هناك مراجعات بدأت في بريطانيا وبدرجات أخرى في فرنسا ودول أوروبية حول إعادة تحديد مفهوم الإرهاب وعلاقة الإسلام السياسي به تنظيرا وتمويلا واستغلالا، وتلك قصّة أخرى جديرة بالتأمل.

لكن الآن تصعد «أولوية» أمن الخليج في سياق جديد وخاص، وهو ما بعد «الربيع العربي»، لكن هذا السياق الجديد والمحفّز لاستثمار ما أسميه «فضيلة الاستقرار» يجب أن يترافق مع قراءة للتحديات والتحولات التي تمرّ بها المنطقة، والتي تؤثر بالطبع على طبيعة الحراك السياسي والاجتماعي في الخليج أكثر من أي وقت مضى بسبب طفرة وسائل الاتصال وهشاشة المحتوى.

هناك تحول كبير يجري في بنية المشهد الخليجي، ليس فقط على مستوى السياسات العامة التي تمسك بزمامها الدول، ولكن تحول على مستوى مكونات المجتمع الخليجي السياسية والاجتماعية بسبب تحول جذري وراديكالي في مصادر التلقي والخطابات السائدة، أولا هناك تراجع للإسلام السياسي وخطاب الصحوة لصالح خطابات منسلّة جديدة تحمل «هويّة» سياسية مركبة وغير متجانسة، فهي من خلفيات صحوية في تكوينها الثقافي، لكنها متجاوزة للمقولات المؤسسة كالحاكمية ودولة الخلافة وشعار تطبيق الشريعة.. إلخ، ومن هنا وقعت في فخ «الإحلال» غير الواعي فاستبدلت بالخلافة دولة القانون، وبالكاسيت والمنابر حسابات «تويتر» والسوشيال ميديا، واستبدلت بالأسر التنظيمية الشبابية والمنشورات الهاشتاغ والغروبات الإلكترونية التي ترسل ذات المحتوى بنفس تكنيك وآليات الحشد القديمة، وهو ما جعل المشهد برمته يختلط فيه الحابل بالنابل السياسي بالديني بالحقوقي بالراديكالي، وصولا إلى منافسة تيارات عنفية تقتطع لها حصّة جديدة من كعكة «الإعلام الجديد».

هذه الأجواء الجديدة كانت ستكون صحّية لو كانت المنافسة عادلة على مستوى الفرص والتكتلات ومعقولية الخطاب، لكنها تأتي في سياق ما بعد الربيع والظلال القاتمة التي ألقاها على عدة مناحٍ أهمها: تبدل المفاهيم حول الدولة والسلطة والأداء الحكومي من جهة، وتبدل في أولويات الخطابات الجديدة من عزل مفاهيم إسلاموية لا مكان لها في سوق الديمقراطية اليوم والوقوع في مأزق «الإحلال المفاهيمي» وقطع الصلة عن السياقات الفكرية والاجتماعية التي ولدت فيها مفاهيم المجتمع المدني والديمقراطية والتعددية السياسية والحريّات.. إلخ.

هذا الارتباك سيعيدنا إلى حالة مفاهيمية مشوهة تشبه إلى حد ما مرحلة الإحلال الأول التي ولدت مع الإسلام السياسي، ولكن في أطر فكرية وثقافية واجتماعية وليست سياسية، فالتصنيفات المبكرة حول قضايا العلم والحريات والإعجاز العلمي والتغريب والموقف من الآخر كانت نتاج عملية إحلال مأزومة تعيد نفسها اليوم، ولكن في عالم السياسة وليس الاستحواذ الثقافي الاجتماعي الذي سلم مفاصل المجتمع ومكوناته لخطاب إسلاموي حديث ومستنسخ من تجربة الإسلام السياسي الحديثة جدا، وفي النهاية تكون في المنطقة ما يشبه مفهوم الدولة العميقة، ولكن في سياق مجتمعي بات معه من الصعب التجاوز إلا بأجيال جديدة تنفست بعيدا عن الهواء المؤدلج، ولكنها الآن تنشأ على خطابات جديدة تتسم بالفوضوية وأزمة المحتوى، وهو ما يلقي بمسؤولية أكبر في إنتاج برامج وسياسات طويلة المدى ذات تأثير اجتماعي يلائم أولوية الأمن الصاعدة وبمباركة المجتمع الدولي.

[email protected]