أم سيتي

TT

تمثل العرابة المدفونة أحد أهم المواقع الأثرية في مصر، وتقع الآن ضمن حدود مدينة البَلْيَنَا بمحافظة سوهاج، وأطلق عليها القدماء المصريون اسم «أبيد جو»، وحرفت إلى «أبيدوس»، وصارت منذ أقدم العصور مدينة دينية خاصة بـ«أوزير»، راعي الموتى والعالم الآخر. وحرص المصريون القدماء على الحج إلى العرابة المدفونة أو «أبيدوس» وتقديم القرابين لـ«أوزير» وإلى الأموات من الفراعنة الأوائل، وحرق البخور، ونثر الماء على أرواح الأجداد، والاستمتاع بالاحتفالات الدينية الشهيرة للمدينة وما يصاحبها من إنشاد ديني وطقوس روحانية بديعة. وأشهر معالم «أبيدوس» مقابر حكام عصر قبيل توحيد مصر وتأسيس أول دولة في العالم القديم قبل خمسة آلاف سنة، وكذلك مقابر فراعنة الأسرتين الأولى والثانية التي شكلت وجه مصر الحضاري لآلاف السنين. واستمر المصريون القدماء، سواء الفراعنة أو كبار رجال الدولة، أو حتى عامة الشعب، يبنون المنشآت الدينية والجنائزية في «أبيدوس» طوال التاريخ المصري القديم، وأضفى عليها الفراعنة منزلة خاصة ووضعوا لها قوانين تحميها وتحافظ عليها. وأجمل المنشآت الأثرية في «أبيدوس» معبد الفرعون سيتي الأول الذي أتمه ابنه رمسيس الثاني أشهر فراعنة مصر على الإطلاق بكثرة عمائره وحروبه.

أسعدني الحظ في بدايات حياتي العملية مفتشا للآثار بأن أعيش وأعمل في «أبيدوس» مرافقا لبعثة جامعة بنسلفانيا الأثرية، في أواخر ستينات القرن الماضي، التي كان قوامها نحو 20 أثريا ومرمما ورساما، وكانت إقامتنا جميعا في استراحة جميلة من الطوب اللبن، في قلب الصحراء القاحلة الغنية بالثعابين والعقارب، وكانت تسليتنا الوحيدة على العشاء الحديث في السياسة، حيث كان بعضهم لا يحب عبد الناصر، وأنا من عشاقه، فكان الشجار يوميا على العشاء، وفي الصباح الباكر نعمل جنبا إلى جنب.

وقابلت السيدة دورثيا التي يعرفها أهل المنطقة باسم «أم سيتي»، وكانت تمشي وخلفها خفير يحمل السلاح، وقد صار الرجل من أثرياء المنطقة لأن «أم سيتي» كانت تعطي له كل ما يأتي لها من مال من الزائرين للمكان ممن يستمعون لحكايتها العجيبة.. فهي سيدة إنجليزية، وقد حدث لها وهي في سن الخامسة أن قالت لأمها إن لها ابنا موجودا في مصر وإن اسمه «سيتي»، واعتقد أهلها أنها غير طبيعية ووضعوها في مستشفى للأمراض العقلية، وعندما بلغت سن الشباب جاءت إلى مصر تبحث عن ابنها المفقود. وكانت فنانة ترسم المناظر والنقوش الفرعونية مثل الفنانين الفراعنة تماما، ولذلك استطاعت أن تشترك في بعثة الأثري المصري سليم حسن وقت أن كان يعمل في منطقة الأهرامات. وقد عاشت دورثيا حياتها كلها بجوار معبد ابنها سيتي الأول؛ تنظفه، وتقرأ نصوصه مثلما تقرأ الإنجليزية، وعرفها العالم كله، وكان السائحون يلحون على مرافقتها بالمعبد والاستماع إلى قصتها، وكانوا يعطونها كثيرا من المال لمساعدتها. وإلى هذه السيدة يعود الفضل في تمكني من اللغة الإنجليزية، حيث فتحت لي مكتبتها؛ أستعير منها ما شئت من كتب في الأدب الإنجليزي والتاريخ والآثار. ويوما بعد يوم، وبفضل ما أتعلمه؛ كنت أواجه زملاء العمل الأميركان وأفوز في معركتي معهم دفاعا عن عبد الناصر. كانت أياما حقا جميلة رائعة.. شديدة البساطة.. استمتعت فيها بالعمل في الآثار، وتعرفت عن قرب على حضارة عظيمة لا يزال كثيرون يجهلونها، وكذلك تعرفت على نماذج مختلفة من البشر.. وسبحان الخالق العظيم.