«شهيد المعرفة»

TT

في هذه الأيام التي تفاقمت فيها شتى الادعاءات بالشهادة والاستشهاد والشهداء، لا أملك غير أن أرشح رجلا من رجال الأدب والفكر، أبو عثمان عمرو الجاحظ، الذي توفي بسقوط رفوف الكتب التي اكتنزها على رأسه، ليستحق مني لقب «شهيد المعرفة». لدينا قوم يموتون بتبادل الرصاص والقنابل، وها هنا امرؤ يموت قتلا بكتاب. الحمد لله لم يقتله أحد بالهوية أو بسبب اسمه! أصبحوا يفعلون ذلك في أيامنا هذه، أيام النحس، وأيامه كانت أيام خير.

عرف عن الجاحظ ولعه بالقراءة والاطلاع ودراسة ما يحبه وما يعافه، ولا عجب أن يصبح إماما من أئمة المعتزلة، الفئة التي جادلت في العقل والعقلانية والعلم والعلمانية. وكعمود من أعمدة الفكاهة والسخرية في الأدب العربي قضي عليّ أن أقضي ما استطعت من وقت في متابعة ما كتبه. وكان مما هزني فيه مؤخرا كثرة اطلاعه وإحاطته بالشاردة والواردة.

وكما ذكرت بالأمس القريب، كنت أتصفح شيئا مما أورده في كتابه الغزير بالمعارف، «البيان والتبيين». راعني فيما عاينت الفصل الذي كتبه عن العصا. وإذا بشيخنا يسترسل لما يقرب من ألف وخمسمائة كلمة عن هذا الشيء الهامشي في حياة الإنسان.. «العصا». وأنا ككاتب محترف، كثيرا ما أواجه صعوبات جمة في كتابة مقالة بهذا الحجم حتى عن جلائل الأمور. أشك في أنني أستطيع أن أكتب ألف كلمة عن حرية المرأة في دنيا الشرق الأوسط، اللهم إلا إذا كان بعنوان «العصا والمرأة» في المجتمع العربي المعاصر. أستطيع عندئذ أن أكتب ألفا أو ألوفا من الكلمات.

وكما اعتدت من شيخنا الجاحظ في منحاه بمزج الجد بالهزل والنصيحة بالسخرية، قرأت هذا الفصل عن العصا ومكانتها في تاريخنا وحياتنا وأنا أضحك في «عبي» كما يقول أهل العراق، أو أضحك في أكمام ثوبي، كما يقول أهل لندن. يورد الشيخ تفاصيل ومعلومات واستشهادات واقتباسات عجيبة وطريفة بشأن العصا. يقول:

«تنوب للأعمى عن قائده، ويتخذها الراعي لغنمه، وكل راكب لمركبه، وقد يدخل عصاه في عروة المزود، ويمسك بيده الطرف الآخر، وربما كان أحد طرفيها بيد رجل والطرف الآخر بيد صاحبه، وعليها حمل ثقيل. وتكون العصا إن شئت وتدا في حائط، وإن شئت ركزتها في الفضاء وجعلتها قبلة، وإن شئت جعلتها مظلة، وإن جعلت فيها زجا كانت عنزة، وإن زدت فيها كانت عكازا، وإن زدت فيها كانت مطردا، وإن زدت فيها شيئا كانت رمحا. وتكون العصا محراثا، وتكون مخصرة، وتكون سوطا وسلاحا».

ثم يستعرض بعض تاريخها فيقول: إن الخطباء اعتادوا على الاتكاء على العصا حتى إن عبد الملك بن مروان قال: «لو ألقيت الخيزرانة من يدي لذهب شطر كلامي». وكانت العصا لا تفارق سليمان بن داود في مقاماته ولا صلواته ولا في موته ولا في أيام حياته.