طريق مغلق

TT

قبل خمسة أعوام كتبت مقالا ناقشت فيه ورقة استراتيجية أعدتها لرئيس الوزراء الاسرائيلي حينئذ بنيامين نتنياهو مجموعة من المحافظين الجدد البارزين في الولايات المتحدة. وقد وضعت الوثيقة، التي كانت بعنوان «كيفية التوقف بدون مشاكل»، لمساعدة نتنياهو في وقف عملية السلام، وفي سحب شرعية السلطة الفلسطينية وايجاد بديل لها، وفي اقامة تحالف استراتيجي عسكري قوي بين الولايات المتحدة واسرائيل من أجل «مواجهة الأنظمة الاقليمية غير الديمقراطية».

وبادراكها ان ادارة كلينتون لم يكن بامكانها اقرار مثل ذلك المشروع، اقترحت مجموعة استشارية أميركية أن يركز نتنياهو جهوده على كسب المؤيدين من أعضاء الكونغرس الجمهوريين. ولم تلق جهودهم النجاح المطلوب لكنها الحقت ضررا بالغا بعملية السلام التي مازالت مهترئة ولم تحقق تقدما حتى اليوم.

وقد تمكن كلينتون من التغلب على سوء نوايا نتنياهو، وأجبر حكومة الليكود على التوقيع على اتفاقيتين مرحليتين مختلفتين مع السلطة الفلسطينية. ونتيجة لذلك تعرض نتنياهو لحملة انتقادات من أصدقائه الأميركيين.

أما الآن وبعد خمسة أعوام، ومع تربع واضعي تلك الخطة في البنتاغون ـ وزارة الدفاع الأميركية وتسلم ارييل شارون منصب رئيس وزراء اسرائيل، ها هي جهود احياء العناصر الرئيسية لتلك الخطة تمضي الى الأمام.

ومن المحزن ان أي نجاح قد يتحقق لهذه الحملة التي ترمي لتدمير عملية السلام والسلطة الفلسطينية لا بد أن يحسب أيضا لأولئك الانتحاريين الذين يفجرون أنفسهم وأولئك الذين يبعثونهم الى نهايتهم المميتة.

منذ انتخابه ظل شارون ملتزما بالقضاء على عملية السلام. ورؤيته للسلام تمثلت، في أحسن الأحوال، بالعودة الى جهود اسرائيلية عتيقة كانت ترمي الى اقامة «محميات» فلسطينية، يتزعمها «سكان مهادنون» وتحيط بها مناطق خاضعة لاسرائيل. ومع تشكيله لما يسمى بـ«حكومة وحدة وطنية» سعى شارون فقط لتجنب الانتقاد الدولي الساذج في الوقت الذي واصل تحقيق أهدافه.

لقد تمكن حتى من استيعاب تقرير ميتشل الذي تضمن دعوة اسرائيل الى الالتزام بما وافقت عليه، وطالب الفلسطينيين بعدد من الخطوات. ذلك التقرير الذي لو جرى العمل بما جاء فيه لأمكن عودة الطرفين للمفاوضات.لكن مع اصراره على مطلبه الاضافي، الذي لم يتضمنه تقرير ميتشل، ويدعو لفترة اسبوع من الهدوء التام، يكون شارون قد قضى على المشروع عمليا.

فقد تمثلت خطة شارون في وضع الفلسطينيين بداخل صندوق. حيث خنق اقتصادهم وآمالهم في اقامة ما كان يمكن أن يشكل كيانا وحوله الى جيوب مغلقة ـ معزولة عن بعضها البعض . كما أثار الغضب الفلسطيني بمواصلته سياساته القهرية المتعلقة ببناء المستعمرات،وتهديم المنازل والاغتيالات. وعندما تحدث أعمال عنف فلسطينية، يكشف شارون عن نواياه الحقيقية باستخدام القوة المفرطة.

ومع تعاظم الغضب الفلسطيني وتعرض السلطة الفلسطينية لضغوط شديدة متعلقة بشرعيتها، واصل شارون اصراره على أن يقوم الفلسطينيون بما يريد هو القيام به، دون أن يقدم بالتالي ما من شأنه تخفيف المعاناه الفلسطينية ـ كما طرح في تقرير ميتشل.

كل هذا صاحبه جهد دولي في اسرائيل وفي الغرب يرمي الى تصوير ياسر عرفات بأنه المسؤول الأول عن أعمال العنف ومهندس الرعب في المنطقة.

وخلال معظم وقتنا الحالي، تبنت ادارة بوش سلوك من لا يعنيه الأمر الى حد كبير. وتعرض موقف السلطة الفلسطينية لمزيد من الضعف، كما تعاظم الغضب الفلسطيني وحالة الاحباط، فيما واصل شارون احتفاظه بتفاؤله.

كانت مبادرة كولن باول التي أعلنت مؤخرا قد بعثت شيئا من الأمل. كما كان رد فعل شارون ومؤيديه متوقعا. فقد نفذت المزيد من عمليات الاغتيال، وجرى تهديم المزيد من المنازل الفلسطينية، وبناء المزيد من المستعمرات الاسرائيلية، وتلقت ادارة بوش المزيد من رسائل التحذير من أعضاء الكونغرس.

وبطبيعة الحال تمثلت الضربة الأخيرة في حوادث التفجير التي نفذها انتحاريون خلال الاسبوع الماضي، وأدت الى مقتل أكثر من 24 اسرائيليا. ومع الغضب الاسرائيلي العام وتأثر الأميركيين من جانبهم، تهيأت الأجواء لشارون لكي يقوم بهجومه، الذي وصفه متحدث باسم الحكومة الاسرائيلية بأنه «اجراء عسكري متواصل ضد البنية التحتية لارهاب السلطة الفلسطينية، والتي أعلن انها تؤيد الارهاب».

هذا الوضع يتجاوز المأساة. فاللجوء الى الانتحار في أوساط الفلسطينيين يعد ظاهرة تدمير ذاتي مؤسفة تولدت نتيجة لليأس وغذتها تفسيرات ما دينية. وقد شاهدنا مثل هذه التطورات خلال مراحل مختلفة من التاريخ. «الاسراع للشهادة»، كما يطرح البعض، وهو سلوك تمكن من المسيحيين واليهود وسكان أميركا الأصليين، وغيرهم. وهو باتخاذه صفة الحركة السياسية أو الدينية، لا يبدو كذلك في اعتقادي. انه سلوك يعبر عن نفسه، ناتج مؤسف للاحباط، انتحار وأمل رائع في التحرر من حياة تبين انها لا تستحق العيش. يجب الاعتراف بأن هذا الوضع المثير للاحباط تعرض للاستغلال وللانتشار من قبل أولئك الذين يخططون لأهداف سياسية.

ونتائج هذه الحركة كانت مدمرة، ليس فقط بالنسبة للاسرائيليين الذين تعرضوا لخسائر بشرية، بل للعائلات الفلسطينية التي تعرضت حياتها للتدمير، وللمجتمع الفلسطيني الذي أصيب بالدمار هو الآخر.

وبنفس الطريقة التي ينتقد بها البعض أعمال التفجير الانتحارية تلك، يجب افتراض اطار لهذه الظاهرة يتمثل في استمرار الأوضاع البشعة والمهينة التي تسبب فيها الاحتلال الذي قضى على الحياة والأمل لدى جيل من الفلسطينيين، وساهم في ايجاد أرضية خصبة نمت خلالها حركة «الاسراع للشهادة» التدميرية.

يبدو ان ضربات شارون الموجهة للسلطة الفلسطينية صممت من أجل المزيد من اضعافها وبالتالي لتدميرها. لكن بينما يزعم أنه فقط ينوي ارغامها على «سحق الارهاب»، أدت مذابحه الى نتائج عكسية، وهذا أيضا ستكون له نتائج مأساوية بالنسبة لجميع من لهم علاقة. ويبدو ان المجتمع الاسرائيلي يؤيد هذه الاجراءات، وهذا التأييد يجب أيضا وصفه بأنه حالة من الخيال المدمر. فرعب الاحتلال وتدمير السلطة الفلسطينية لن يؤدي سوى الى مزيد من الرعب. وكما لاحظ زعيم المعارضة الاسرائيلية يوسي ساريد مؤخرا بقوله: « ما هو الشيء الذي لم نفعله خلال العام الذي مضى: لقد نفذت الحكومة سياسة اغتيالات، واقتحمت الحكومة مناطق (أ) الفلسطينية ـ، اقتحمتها ثم خرجت منها، فرضت اجراءات الاغلاق، والتطويق وحواجز الطرقات. وأعلن رئيس الوزراء بالفعل (وهي ليست المرة الأولى) أن الحكومة تعي كيف يمكنها القضاء على الارهاب، وهو بنفسه يستطيع الآن أن يحدثنا عن حالة الاحباط الاجتماعي. ستكون غلطة مآساوية أن نعتقد أن أي شيء لا يمكننا تحقيقه بالقوة ـ يمكن أن نحققه بمزيد من القوة. الاحتلال الاسرائيلي هو المصنع الذي ينتج الرعب وهذا المصنع يمكن اغلاقه بقفل ديبلوماسي وليس بمطرقة تزن خمسة كيلوغرامات».

وكما أنه لا يمكن للانتحاريين الذين يفجرون أنفسهم أن ينجحوا في وضع نهاية للاحتلال، لا يمكن لحملة شارون العنيفة أن تنجح في وضع حد لمطلب الفلسطينيين في العدالة. ففي نهاية المطاف، لو تم تدمير السلطة الفلسطينية وتمت اجراءات اعادة فرض الاحتلال التام، ستعيش اسرائيل وضعا لا يقل اضطرابا وعرضة لمزيد من الدمار عن الوضع الذي كان قائما قبل الانتفاضة الأولى.

* رئيس المعهد الأميركي العربي في واشنطن