الهم التحديثي بين لبس السؤال ووهن التفكير

TT

من الاشكالات التي كثيرا ما يطرحها الخطاب العربي المعاصر سؤال لماذا اخفق المشروع التحديثي العربي، في الوقت الذي نجحت مشاريع تحديثية في فضاءات حضارية ومجتمعية اخرى لم يتوفر لها ما تجمع للمجال العربي من عناصر قدرة ومقومات نمو وتطور؟

وكثيرا ما يرد النموذج الياباني على الالسن، في سياق المقارنة مع الديناميكية الاصلاحية والنهضوية التي عرفتها الوطن العربي منذ القرن التاسع عشر (في مصر على الاخص)، وقد تتجاوز المقارنة الحيز الياباني فيشار الى تجارب النمو الاسيوي، بما فيها تجارب ناجحة في بلدان تنتمي الى العالم الاسلامي كاندونسيا وماليزيا.

ولتفسير اخفاق المشروع التحديثي العربي، قدمت نظريات ومقاربات، تأرجحت بين التركيز على الارث التاريخي والعوامل الاستراتيجية (وجود الوطن العربي في نقطة التصادم مع القوى الغربية)، والاحالة الى الخلفية التراثية والمدونة العقدية كعائق امام نهج التحديث، والرجوع الى طبيعة التركيبة المجتمعية وعناصر البنية الاقتصادية. وتلك نظريات واسعة الانتشار، ليس هذا مجال بسط القول فيها. ومن البديهي ان هذه الاسئلة قد تعقدت وتشعبت بدخول ديناميكية التحديث منعرجا حاسما في العقد الاخير من القرن المنصرم، بانبثاق ظاهرة العولمة.

الاقتصادية بمتعلقاتها التقنية والعلمية، وانعكاساتها الثقافية والمجتمعية وتأثيراتها على الرهان السياسي وطبيعة المنظومة السلطوية وشكل الدولة.

وفي حين عولجت هذه التحولات في الفكر السياسي والاقتصادي في اطار اشكالية العولمة، التي قليلا ما يتم ضبطها واستكناهها بدقة وصرامة، ثم التطرق اليها في الادبيات الفلسفية والسوسيولوجية في سياق مفهوم «ما بعد الحداثة» الذي يكتسي في ايامنا بريقا سحريا متزايدا في الكتابات السيارة (خصوصا في الادب والتقدم الادبي).

فالسؤال المطروح راهنا: اذا كان المشروع التحديثي العربي قد فشل ولم يتمكن من بلوغ مطامحه واهدافه، فهل لا تزال الحاجة قائمة اليه، في عصر تجاوز العالم حقبة الحداثة ذاتها، ودخل الى افق جديد مختلف السمات والقسمات؟ وهل يتسنى للعرب ولوج العصر الجديد (عصر العولمة وما بعد الحداثة) دون المرور بمرحلة الحداثة التي فشلوا في الوصول اليها؟

لا شك ان هذا السؤال يذكر بإشكال مماثل استأثر باهتمام المفكرين الماركسيين بدءاً بمؤسس الدولة السوفياتية لينين، ثم من بعده جيل كامل من ماركسيي العالم الثالث وهو: هل يمكن لمجتمعات لم تمر بعد بالحالة الرأسمالية ان تطبق النموذج الاشتراكي الشيوعي؟

ومن البديهي ان هذا السؤال يتعلق باهم سياقين عرفا التجربة الماركسية، اي السياق الروسي والسياق الصيني، وكلاهما سياق زراعي اقطاعي لم تتم فيه بنية صناعية رأسمالية، تؤهله لتركيبة طبقية تفضي من حيث صراعاتها الى خيار الحسم الاشتراكي.

وفي الخطاب الرائج حول الاشكالية المطروحة، تلتبس المفاهيم وتتداخل، وتظل الحدود الفاصلة بين مطمح التحديث وتجاوزه غائمة، غير مؤسسة: فهل المطلوب هو التغلب على عوائق المشروع التحديثي ببناء قاعدة صناعية صلبة وتدعيم اطر الاندماج الوطني واعادة قولبة شبكة العلاقات المجتمعية كما هو مسار التجارب الغربية الحديثة، ام ان الغرض هو التماهي مع واقع المجتمعات الغربية راهنا، حيث فرضت تطورات الثورة التقنية الثانية واتجاهات العولمة تجاوز هذه الظواهر؟ ان المسكوت عنه في هذا الحوار كما كنا قد اشرنا في مناسبة سابقة هو تحديد العلاقة بالحداثة، من حيث المنطلقات الفكرية، وذلك احد الهموم الكبرى في الحقل الفلسفي الغربي الحالي.

اي بعبارة اخرى ان الصلة بالعولمة وما بعد الحداثة، تقتضي في البدء التفكير المعمق في الحداثة تصورا ومسلكا وتجربة، وهو الجهد الذي نادرا ما يحظى بعناية واهتمام الخطاب العربي المعاصر الذي لا ينفك يختزل هذه الاشكالية الثرية في مأزق التصادم بين خصوصيات الهوية وإكراهات ومقتضيات العصرنة.

وكما يقول سوزا سانتوس، فان الحداثة تتمحور حول ركيزتي التنظيم والانعتاق، ولكل من الركيزتين ثلاثة مبادئ هي جماع الهم الفلسفي والاشكالات الاجتماعية.

فركيزة التنظيم تقوم على مبادئ «الدولة ـ الامة» اي نظام الدولة الليبرالية ذات المؤسسات التنفيذية الفاعلة التي وصفها الفكر السياسي من هوبز الى هيغل، و«السوق» المترتبة على طبيعة الثورة الصناعية وقسمة العمل، و«المجموعة» بالمفهوم الذي وضعه روسو (اطار التعاقد الاجتماعي المعبر عن حرية الارادة المشتركة).

اما ركيزة الانعتاق فتقوم على ثلاثة انماط من العقلانية: العقلانية الاخلاقية كما تتجسد في القوانين والتشريعات. والعقلانية المعرفية الادواتية كما تتجسد في العلوم والتقنيات. والعقلانية الجمالية التعبيرية كما تتجسد في الآداب والفنون. ان اي تفكير في الحداثة، يقتضي تصوراً مركزاً وعميقا لهذا الفضاء الدلالي والمفهومي الواسع، الذي يتطلب حفرا بعيدا في المنظومات الفلسفية والابستمولوجية والتشريعية، مع النظر في مآله ووضعه الراهن في مرحلة حاسمة من تاريخ العالم، لم تتضح بعد معالمها وتوازناتها، ولا يفيد في ضبطها واستكناهها اللجوء الى المستنسخات التي يروجها خطاب العولمة وما بعد الحداثة.