الإخفاء والظهور

TT

سوف يدخل الملا عمر التاريخ من ابواب كثيرة، اهمها انه اول حاكم غير مرئي، استطاع ان يحكم شعبه بالشدة وان يقارع خصومه المحليين بالنار، وان يواجه العالم اجمع وهو... بلا وجه، ذهبت جميع آلات التصوير في العالم الى افغانستان، الملون منها والمتحرك والعامل بالاقمار الصناعية، والى اليوم ليس للملا عمر سوى صورة واحدة. وليس هناك من يستطيع ان يجزم بأنها له.

هذه مهارة اخرى تسجل للملا عمر: ان يتمكن رجل من الحكم بقبضة من حديد، من دون ان تظهر له صورة، او حتى ان يسمع له صوت، الا في مناسبات نادرة، كمناسبة دعوة الشعب الافغاني الى الصمود والمقاومة حتى اللحظة الاخيرة. وهي لحظة باهظة الثمن، تعطى اسباب كثيرة لاصرار الملا عمر على لبس ما كانت تسميه الاساطير الشعبية «القمع الاخفى». فمن يقول انه فقد احدى عينيه، ومن يقول انه يميل الى الخجل (كذا) اما الاخضر الابراهيمي الذي اجتمع اليه غير مرة عندما كان موفد الامم المتحدة في المرحلة السابقة، فيصفه بأنه رجل هادىء، ويقول انه لم يغادر قندهار، الى اي مكان، سوى المرات القليلة الى كابل، التي اصبحت عاصمته لبضع سنين. ويروي مندوب اميركا السابق لدى الامم المتحدة المستر ريتشاردسون انه اجتمع الى الملا عمر مرات عديدة، لكنه كان في كل مرة محاطاً بالآخرين، ويلاحظ انه كان هادئاً ولكن من دون القبول بأي طلب قدم اليه.

كيف تطارد الطائرات الاميركية، اذن، ويطارد رجال «تحالف الشمال»، رجلاً لا يعرفه احد من المطاردين؟ تستطيع طائرات «البريديتور»، وتعني الطيور القواطع كالعقبان والنسور، ملاحقة «طريدتها» وفقاً لاقل اشارة حرارية. ويروي بوب وود ودورد، الذي وضع كتاب فضيحة «ووترغيت» وسلسلة من الكتب الاخرى عن اعمال السي.آي. ايه، ان المخابرات الاميركية كانت تأخذ عينات من الحمام الذي يدخل اليه ليونيد بريجنيف من اجل فحصها ومعرفة الامراض التي يعاني منها، اما طبيب فرنسوا ميتيران الخاص فقد وضع بعد وفاته كتاباً يروي فيه كيف كان مرافقو الرئيس الفرنسي ينظفون غرفته وسريره ويحرقون القطن الطبي خلال زياراته الخارجية، لكي لا تستطيع الدول الاخرى معرفة شيء عن حاله الصحية.

يتوقف كل شيء الآن على ما سيحدث للملا عمر، الرجل الذي سيكون بابه الثاني الى التاريخ، انه استطاع اخفاء نفسه عن اوسع مطاردة حربية ربما في التاريخ. فلا هو (حتى اللحظة) هنا ولا هو هناك. وامعاناً في التمويه يقال انه تنقل على دراجة نارية في الآونة الاخيرة. واعتقد ان ذلك من خيال الصحافيين والمرشدين والادلة الباحثين عن اضخم مكافأة وضعتها اميركا في تاريخها. فقد خالف جورج بوش الدستور ليصل الى مبلغ الـ 25 مليون دولار، بحثا عن اسامة بن لادن ومضيفه.

وكلاهما نقيض الآخر. ففيما نشر بن لادن صوره في عناية واضحة، ظل المضيف بلا صورة. وقد «حلل» الكاتب التونسي زياد العروي في «جون افريك» صورة بن لادن في الكهف، فوجد الرشاش الملازم له اميركي الصنع، وقماش ثوبه فرنسياً وما الى ذلك من تفاصيل في حينها. اما الآن فالاشياء تنعكس والاشياء تنقلب. وهذه حال الدنيا في كل حال. والمراسلون العرب اصبحوا يرافقون «تحالف الشمال» بحثاً عن الاخبار الخاصة ويغطون ملاحقة بن لادن في جبال وجرود وصرود تورا بورا. انها الموضوعية الصحافية، تنتقل وراء الحدث، من الوعر الى الغياض الخمائل، فمرة تتباشر الناس ومرة يتناوحها الغم من كل ناحية.