عقدة الخواجة مستمرة!

TT

في معظم دول العالم الثالث حالة من «الهوس» الغريب له علاقة بكل ما يكتب ويقال في الإعلام الغربي عنها، فإذا كان هناك إشادة أو مديح بمواقف وإنجازات وتصريحات، فورا يتم إبراز ذلك في المطبوعات وعلى رأس نشرات الأخبار، مع العلم أن المادة الإعلامية نفسها لا تلقى الحجم الكبير من التغطية في الوسيلة التي تصدر منها، لأن هناك اعتقادا باطنيا وراسخا في الأعماق بأنهم «أفضل» منا وأكثر إدراكا لأنهم «متقدمون» عنا بكثير.

وبذلك تولدت فكرة أو أسطورة التقدم، وهي نظرية تعتمد على الاعتقاد بأن البشرية تتقدم وتتطور وتتحسن. وأن اليوم «حتما» هو أفضل بكثير من الأمس، وأن القادم المستقبلي بلا جدال ولا شك هو كل الخير وهو الأفضل، وهذا يولد حالا عاما من الفكر بأن اليوم بعمومه أفضل من الأمس وأن الغد بعمومه أفضل من اليوم. وهو نقيض لفكرة التغيير، لأن التغيير يمكن أن يعبر عن حالات متناقضة في حال الإنسان، يتحسن حاله في بعض المسائل والأمور ويتراجع حاله في مسائل أخرى.

وهذا المعتقد بالتقدم أصبح يحفر في رؤوسنا وفي أذهاننا كالهواء الذي نستنشقه، بحيث لم يعد هناك مجال للتفكير ولا للتدبر في الأمر، وأصبح القبول به أمرا من المسلمات التامة، فهو موجود في البرامج الإعلامية والمناهج الدراسية والأحاديث العامة والخطب السياسية والندوات الفكرية، وزرعت المرادفات الأدبية في اللغة التي تستعمل وسط العامة بشكل عفوي وتلقائي حيث أصبح أهم إطراء ومديح يمكن أن يوصف به أحد الأشخاص هو أن تطلق عليه وصف عصري (Modern) وهي عكس كلمة ذم يوصف بها رجل فيقال إنه تقليدي أو قديم أو رجعي، لأنه فورا سيوضع في خانة تحمل في طياتها صفة أنه من مخلفات الزمن وأنه جزء من سلة مهملات التاريخ أو الأرشيف.

وطبعا تتحكم في هذه النظرة سلسلة من التصنيفات المعدة سلفا من مراكز صناعة القرار أو شركات الأبحاث أو مؤسسات مجتمع مدني أو منظمات دولية غير حكومية تقوم على فكرة ربط «التقدم» بالرخاء الاقتصادي فقط، فتسخر كافة وسائل تقييم الناس والمجتمعات والأفراد والحكومات لغاية واحدة فقط وهي استمرارية الرخاء الاقتصادي، حتى ولو ارتفعت معدلات الجريمة وانهارت مؤسسات الزواج وانتشرت العلل والأمراض النفسية وزادت معدلات التشرد والتحرش بالأطفال، على سبيل المثال لا الحصر طبعا.

كل ذلك له علاقة بفكرة قديمة صرح بها العبقري الراحل الكبير جهبذ علم الاجتماع ابن خلدون، حينما قال في مقدمته الشهيرة: «إن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب»، وهي حكمة سليمة وصحيحة بلا أي مجال للشك، فالفوز والنصر وما يأتي معهما من مكاسب ومن مكانة خاصة، أشياء مرغوبة ومطلوبة جدا على الدوام، والصفة المرغوب فيها تضفي على صاحبها سحرا وبريقا لا تدركه الأعين ولا تكشف عما به من عيوب.

فهناك تحديدا خديعة تقع فيها الشعوب المغلوبة على أمرها في العالم الثالث تقول دوما إن الارتفاع في الكفاءة والإنتاجية المادية تحديدا، وكذلك العلمية والأدبية والفلسفية والرياضية والفكرية والفنية، يعني بصورة تلقائية وفورية تقدما باهرا في الأنظمة والمعايير الإدارية الاجتماعية، وأن تكون معها مساحات عظمى من الحريات ونمو عظيم في درجات الرفاهية والرخاء والرقي البشري.

وعقدة «الخواجة» أو الدونية والإحساس بالنقصان ليست حالة عربية أو شرق أوسطية فحسب، فاليابان عانت منها مر المعاناة، واليوم الصين والهند تحركهما هذه الأحاسيس، ولكنهما تواجهانها بشكل صحي وإيجابي لينعكس على التألق والتميز الاقتصاديين على عكس محاولة الحصول على الرضا والاستحسان فقط.

وعموما الذي يطمئن أن ظاهرة العقدة الدونية التي نتحدث عنها هنا ليست قديمة جدا، فهي بالكاد تتجاوز المائة عام، فالأجيال القديمة لم يكن لديها نفس الإحساس تجاه الخواجة أو الغرب، وكان النظر إليهم أنهم أهل «الفرنجة» فقط، دون أن يكون هناك اعتقاد عميق وراسخ بأنهم «أفضل» منا. القضية ليست من الأفضل، ولكن من يوظف موارده المالية والبشرية والاجتماعية بشكل أكثر فعالية؟ وهنا مكمن التحدي؛ لأن المقارنة غير واردة ولكن قياس حسن الأداء ممكن القيام به لكل مجتمع على حدة ولا شك.