مخاطر «أفغنة» الشرق الأوسط

TT

بعد الحرب الأمريكية في فيتنام، انتشر يومها مصطلح «فتنمة» العالم في اشارة الى الصورة التي ترغب امريكا ان ترى العالم فيها على شاكلة فيتنام التي كانت تخطط لقيامها فيها لو حالفها الحظ وانتصرت على «فيتنام الشمالية» بواسطة الحكومة العميلة في «سايغون»، عاصمة فيتنام الجنوبية التي اختارت في حينها ان تتحالف أو تأتلف أو تتعاون مع واشنطن ضد ابناء جلدتها الفيتناميين الشماليين.

بعد مدة من الزمن حصل الانشقاق المعروف بين من يطلق عليهم بالقبارصة الاتراك والقبارصة اليونانيين، في سياق معارك النفوذ التي كانت ولا تزال دائرة بين أنقرة واثينا على الجزيرة المتوسطية الهادئة والمتعايشة بين طوائفها واديانها وثقافاتها لولا تدخل اصابع الاتراك واليونانيين وايضاً بعض دول وقوى العالم الاخرى. وانطلاقاً من ذلك الانشقاق وتلك الحرب الداخلية انتشر في حينه مصطلح «قبرصة» العالم أو قبرصة المنطقة في اشارة الى ما يمكن ان نسميه سياسة «فرق تسد» المعصرنة أو الجديدة.

وقبل ان تنتهي القبرصة، وربما امتداداً لها أو تعميماً اقليمياً لها، عملت اصابع عالمية مشبوهة ومعروفة للجميع في تحريك الملف اللبناني الداخلي على قاعدة استعداء الطوائف اللبنانية المتعايشة منذ قرون، ضد بعضها البعض، وفي سياق تشويه ملف الشعب الفلسطيني العادل وقضاياه المشروعة وحقوقه الثابتة في ارضه ووطنه، وكلنا يعرف ماذا حصل من خراب وتدمير واستنزاف في اطار هذه المهمة الصهيونية في ما بعد، وتأسيساً على ما حدث في لبنان وانطلاقاً منه، انتشر يومها مصطلح «لبننة العالم» وذاعت تقارير وتحليلات واخبار مفادها بأن خرائط المنطقة في طريقها الى التغير، وان دولاً قد تزول من المنطقة، وان من يقف بوجه اباطرة العالم الصهاينة، ومن ورائهم حلفائهم الاستراتجيين لا بد ان تصيبهم بعض شظايا «اللبننة»! وما ان توقفت الحرب اللبنانية الداخلية وانطلقت مبادرة ما بات يعرف بالسلم الاهلي في اطار الطائف، حتى توجهت الانظار الى الدولة الاتحادية الاوروبية المعروفة بيوغسلافيا، وكان التقسيم العرقي المعروف وحرب الابادة العرقية الطاحنة، وما آلت اليه يوغسلافيا بعد سنين مؤلمة. ويومها انتشر مصطلح «البلقنة» في اشارة الى تعميم ظاهرة تمزيق يوغسلافيا الى دول الجوار الأوروبية الجنوبية في اطار ابقاء السيد العالمي القوي الذي شكل القطب الأوحد للعالم بعد انتهاء الحرب الباردة، مهيمناً على مقدرات الشعوب والأمم والدول الساعية نحو الاستقلال الناجز والكامل.

واليوم وبعد احداث 11 سبتمبر الشهيرة وما تلاها من حرب على افغانستان سميت «بالحرب على الارهاب» وما يكاد يوحي بقرب انتهائها حسب التخمين الأمريكي على الأقل واحتمال انتقالها ميدانياً الى دول اخرى حسب الرغبة الامريكية المعلنة، فقد ظهر مصطلح «الافغنة» في اشارة الى تكرار ما جرى في افغانستان على خرائط دول اخرى متهمة برعاية الارهاب. وهكذا ظهر مصطلح افغنة العراق أو افغنة الصومال، أو افغنة فلسطين.

واياً تكن نتائج الحرب التي لا تزال دائرة في افغانستان، وكذلك اياً يكن موقفك من امريكا ومدى صداقتها للعرب، وما لها او عليها تجاه العرب والمسلمين فإنه يبدو في الظاهر على الأقل بأن هناك حداً أدنى من التوافق العربي والاسلامي على معارضة توجيه اي ضربة للعراق أو لأي دولة عربية اخرى، وهو ما اعلنه اكثر من مسؤول عربي، والأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى اكثر من مرة شارحا بأنه موقف عربي موحد.

جيد ان نكون ضد الحرب على العراق، وعلى الصومال وعلى فلسطين بشكل اخص، وهذا ما يتمناه ويلح عليه كل عربي ومسلم حر شريف على ما اظن.

لكن السؤال هو: لماذا؟ هل فقط لأنه عربي؟! أم لأننا ضد أي عدوان على أي بلد عضو في الامم المتحدة؟ واذا كان مفهوماً وطبيعياً ان يقف العربي متضامنا مع العربي، لكن الاكثر مشروعية وتفهماً ومنطقياً هو ان نقدم الادلة والبراهين على اننا نعارض من حيث المبدأ التدخل في شؤون الدول وتغيير انظمتها السياسية من الخارج وعن طريق القوة المسلحة.

ثمة من يعتقد ان المشكلة الاساسية والموضوع المركزي الذي طبع كافة المنعطفات التاريخية التي اشرنا اليها منذ «الفتنمة» حتى «الافغنة» يكمن في مقولة التدخل الخارجي في تحديد النظام السياسي لهذه الدولة أو تلك، بغض النظر عن موقفنا من هذا النظام أو ذاك.

منذ الحادي عشر من سبتمبر المروع، والعالم على اختلاف انتماءاته يسأل: هل فعلاً ان الحل الوحيد للقضاء على الارهاب يمر عبر الحرب؟ واذا كان ذلك كذلك، ولما كنا مختلفين حول مفهوم الارهاب، الا يعني ذلك آلياً ان مقولة «الحرب على الارهاب» قد تصبح مع الزمن مادة للحرب الداخلية بين القوى المتحالفة للقضاء على الأرهارب؟ وان موضوعة نقل الحرب الافغانية الى اي قطر عربي او اسلامي آخر بعد افغانستان قد اخذت المبرر الفعلي لها منذ ان سمحنا أو قبلنا بأن الحل الوحيد للقضاء على الارهاب هو بالحرب وبتجييش الجيوش، وبالتالي من حق الجميع ان يسأل اليوم ما اذا كانت هناك طرق اخرى اسهل واقل تكلفة وانجع في مكافحة الارهاب؟ والاهم من ذلك ربما طرق غير الطرق التي بدأت تدخل الوهن والتفتت والفتنة وربما مقولة الحرب الأهلية في كل بيت عربي واسلامي.

لقد نقلت الانباء خلال الايام القليلة الماضية ان الولايات المتحدة قررت تجميد اموال عدة جمعيات وبنوك اسلامية بدعوى ان احدى الشخصيات الفلسطينية التي تنتمي لفصيل حماس الفلسطيني تبرعت لها، أو انها مرتبطة بفصيل لبناني مناضل أو انها تغذي طلاب مدارس أو عوائل شهداء وتحرضهم على العنف (اقرأ المقاومة) ضد اسرائيل، وهذا امر مخيف كما اظن اذا ما ترك هكذا دون رادع، لأن الأمر قد يتطور الى امور اكثر اتصالاً بشؤون عقيدتنا وديننا وحياتنا اليومية وسبل ممارستنا لعبادتنا وواجباتنا الدينية. ومن يمنع ان يأتي يوم ـ كما يقول بعض المتتبعين ـ ليقولوا لنا بأن الدعاء اليومي الذي نقوله يومياً: «اللهم انصر هذا الدين واخذل اعداء هذا الدين» نوع من التحريض على اسرائيل ايضاً. فيطلبون منا ان نغير والعياذ بالله من دعائنا وطقوسنا العبادية الاخرى ويتدخلون في فريضة الحج أو أي فريضة اخرى ناهيك عن احتمال الطلب منا الغاء فريضة الجهاد! ارضاءً لليهود وحلفائهم العدوانيين في اسرائيل مثلاً.

وحتى لا نصاب بكل هذا، لا سيما ان اجماعاً عربياً واسلامياً لا يزال ملتفاً حول اقدس قضايانا وهي القضية الفلسطينية وقبل ان تنتقل «الحرب الافغانية» الى فلسطين وغيرها من اقطارنا العربية والاسلامية، مطلوب منا جميعاً لا سيما من قادة هذه البلاد وعلمائها، وقفة جادة لوضع الخطوط الحمر بشأن الحرب على الارهاب!