خطوتان منتظرتان من أوبك

TT

أدى التكتيك الذي أتبعته أوبك الى تجنب جعل حدوث حرب أسعار بين المنتجين العام المقبل أمرا حتميا. وتمثل التكتيك في قرار منتصف الشهر الماضي اثر الاجتماع الطارئ للمنظمة والاعلان عن خفض 1.5 مليون برميل يوميا شريطة قيام المنتجين خارجها بخفض نصف مليون أخرى من جانبهم على أن يبدأ التنفيذ في الأول من كانون الثاني (يناير) المقبل.

فترة الأسابيع الستة تركت للاتصالات الجانبية ولمعرفة اتجاهات السوق فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي العالمي واتجاهات الحرب في أفغانستان وأبعاد الصداقة المتنامية بين الرئيسين الروسي والأمريكي وهل موسكو على طريق فتح صنابيرها ومساعدة واشنطون بابقاء أسعار النفط منخفضة.

الاعلان الروسي عن خفض 150 ألف برميل جعل من الممكن توقع قيام المنتجين خارج أوبك بالمطلوب منهم. ورغم التشكيك ان قرار موسكو يعود لأسباب فنية وتقنية تتعلق بظروف الشتاء حيث يتراجع الانتاج والتصدير على أي حال، الا انه لا يمكن اغفال دلالة أن روسيا قررت ولو بصورة نظرية اللجوء الى استراتيجية دعم السعر وتعظيم العائدات. فمهما كانت علاقتها مع الولايات المتحدة، الا انها لن تلغي حقيقة ان أي انخفاض في سعر خام «أورال» بدولار واحد سيكلف الخزينة الروسية مليار دولار. وفي الوقت الذي نجح فيه تكتيك أوبك في كسب روسيا الى جانب استراتيجية الدفاع عن الأسعار، فان المنظمة مطالبة في واقع الأمر بأكثر من ذلك والاتجاه الى تعديل الخلل في أسلوب عملها، الذي أوضحته الأشهر القليلة الماضية.

واقع الحال يشير الى انه في الوقت الذي ابتعد فيه شبح انهيار الأسعار الى نحو عشرة دولارات للبرميل ولو مؤقتا، الا ان هدف أوبك بتحقيق مدى سعري يتراوح بين 22 الى 28 دولارا للبرميل يبدو بعيدا عن التحقيق في المستقبل المنظور على الأقل، خاصة والكل يتحدث عن ان مرحلة الكساد التي تعيشها الاقتصادات الغربية يمكن أن تستمر فترة ستة اشهر أخرى على الأقل.

ورغم موجة التفاؤل التي شهدتها السوق خلال الأيام القليلة الماضية الا ان التوقعات تشير الى ان الأسعار يمكن أن تستقر بين 17 ـ 19 دولارا للبرميل حتى مع تنفيذ برنامج الخفض المعلن بين المنتجين داخل وخارج أوبك.

ويبقى المطلوب من أوبك في هذه الحالة شيئا من الوضوح على الجانب الاستراتيجي: فإما أن تعلن كما قالت من قبل ان سعر 22 ـ 28 دولاراً للبرميل هو سعر مستهدف، تسعى المنظمة والمنتجون الآخرون الى تحقيقه، وانها ستركز في الوقت الراهن الى أعادة نصيبها في السوق والعمل على زيادة حصتها التي تأثرت بالخفض المتتالي ووصل الى خمسة ملايين برميل يوميا خلال عام واحد، مما أدى الى تراجع السقف الرسمي الى 21.7 مليون، أو أن تسعى من ناحية ثانية مدفوعة باحتياجاتها المالية المتنامية الى العمل الفوري على بلوغ السعر المستهدف مستفيدة من انضمام روسيا الى استراتيجية تعظيم العائدات وعدم اعتراض المستهلكين على رفع السعر الى ما فوق 20 دولارا للبرميل.

على ان استراتيجية الدفاع هذه تتطلب أولا الاستعداد لتراجع أكبر في حصة المنظمة في السوق، وتتطلب ثانيا ايجاد الآلية اللازمة لمعرفة حقيقة الخفض الذي ينفذه المنتجون خارجها، الى جانب ما تقوم به الدول الأعضاء في أوبك نفسها.

لكن اذا كان تاريخ وسجل أوبك نفسها في هذا الميدان ليس مشرقا، فمن باب أولى ألا يمكن فرض شيء على الدول المستقلة. وأهم من هذا الحصول على اتفاق على المدى السعري المستهدف، اذ يرى البعض ان هدف الخفض الحالي وقف تدهور الأسعار، لا رفعها.

واذا كان حسم أي استراتيجية تتبع أوبك من الأهمية بمكان وهل هي طريق الحفاظ على استراتيجية الدفاع عن السعر أو زيادة حصتها في السوق، فان هناك خطوة استراتيجية ثانية مطلوبة وتتعلق بأمر القيادة الفعلية للسوق النفطية.

فإثر تدهور الأسعار مطلع العام 1998 برز ثلاثي السعودية، فنزويلا والمكسيك قائدا فعليا للسوق، بنجاحه في رفع الأسعار بنحو ثلاثة أضعاف خلال فترة عام واحد وتحقيق شيء من الاستقرار النسبي خلال فترة الأعوام الثلاثة الماضية.

على ان العلاقة بدأ يشوبها شيء من الضعف خاصة بين فنزويلا والمكسيك بسبب التباين في المواقف السياسية. ففي الوقت الذي يتبنى فيه الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز مواقف تنطلق من حسابات وطنية عاطفية أكثر منها عملية مثل قانون الثروة النفطية الأخير، الذي يضع قيودا أكثر على نشاط الشركات الأجنبية مما يهدد بتراجع في الاستثمارات في صناعة النفط الفنزويلية، فان المكسيك من جانبها تعمل على توثيق صلاتها بواشنطون وعدم التحمس لخفض الانتاج دعما للأسعار. وكان ملحوظا تكرار المكسيك لموقفها هذا حتى ابان زيارة شافيز لها. على ان حقائق السوق تفرض النظر مرة أخرى في كيفية زيادة فاعلية التنسيق بين كبار المنتجين والمصدرين، ولهذا يصبح من الضروري ايجاد صيغة لضم روسيا الى نادي قيادة السوق النفطية.

صحيح ان روسيا ليست دولة نامية، كما ان لها حساباتها المختلفة والتخوف أن تستغل تجمع المنتجين هذا خدمة لأهدافها الخاصة، لكن يبقى انها منتج كبير وثاني أكبر مصدر للنفط الخام بعد السعودية.

أحد أسباب القبول بقيادة ثلاثي السعودية، فنزويلا والمكسيك ان للدول الثلاث علاقات وثيقة سياسية واقتصادية مع أكبر مستهلك وهو الولايات المتحدة وانها مجتمعة توفر للسوق الأمريكية نحو 40 في المائة من احتياجاتها من النفط المستورد.

نفس الشيء يمكن قوله عن روسيا التي بدأت علاقتها مع الولايات المتحدة في الدفء، واذا كانت قد اختارت استراتيجية الدفاع عن السعر، فهي في قارب واحد مع المنتجين الآخرين أي يهمها أن تحصل على أكبر عائد من صادراتها النفطية، ولذلك فيه يمكن أن تكون أكثر فائدة في الحوار بين المنتجين والمستهلكين، خاصة على ضوء استعدادها لفتح الباب واسعا أمام الشركات الأجنبية للاستثمار في صناعتها النفطية.

تجربة الأعوام الثلاثة الماضية أوضحت نجاح تكتيك بناء العلاقات الشخصية والتحرك بصورة غير رسمية، فليس هناك قرار بقيادة الثلاثي للسوق، والعمل على حل المشاكل التي تنشأ هنا وهناك لدعم قرار بخفض الانتاج من هذه الدولة أو تلك، لكن هذا الأسلوب لم يمكن من بناء استراتيجية ثابتة الأركان وقادرة على مواجهة احتياجات السوق على الأمد الطويل، بدليل الضعف الواضح حاليا في جبهة قيادة السوق. وقد لا يكون أمرا واقعيا توقع بروز قيادة ذات نظرة بعيدة وواضحة في الوقت الذي تلف فيه علامات الاستفهام الساحة الدولية وعلى أكثر من صعيد.

لكن هذا لا يمنع من المحاولة مرة ثانية والعمل على ضم روسيا الى النادي وبأفق أرحب لايجاد ترتيب على أسس اكثر ثباتا ووضوحا تنطلق من حقيقة رغبة المنتجين في الحصول على عائد مجز لنفطهم وتوظيف صلاتهم للوصول الى حالة من الاستقرار في السوق لصالح المنتجين والمستهلكين.