صواريخ شارون دمرت مهمة بيرنز ـ زيني

TT

بعد أقل من اسبوعين على وصول وليم بيرنز والجنرال انطوني زيني الى الشرق الاوسط، تبين ان «الرؤية الاميركية»، التي كان قد صوّرها كولن باول في خطابه بجامعة كنتاكي.. تفتقر ضمنا الى كل معالم الرؤية، لا بل انها قياسا بالموقف الاميركي المتتابع منذ بدء مهمة الوفد الاميركي، تكاد ان تساوي صفرا كاملا.

ليس هناك أي مغالاة قط في القول، ان «الرؤية الأميركية» صفر، ربما لأنه لم يكن هناك من حوجة الى هذه الرؤية اساسا، لو كانت الأمور تسير بدفع ذاتي او طبيعي نحو الحلحلة بين الفلسطينيين والاسرائيليين، اما ان تبدأ الترجمات الميدانية لهذه الرؤية من منطلق مغرق في الانحياز وصل في الايام القليلة الماضية الى حد المزايدة على ارييل شارون في محاصرة السلطة الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات، فإن أقل ما يمكن قوله الآن هو ان هذه الرؤية هي صفر وبامتياز.

وهكذا بدا يوم الاربعاء الماضي ان الاميركيين يمارسون نوعا من «الخلاعة السياسية» عندما انخرطوا، من رأس السلطة في البيت الابيض الى كتبة الاعمدة في الصحف، مرورا بوزير الخارجية وعدد غير قليل من رجال الكونغرس، اضافة الى رموز الانحياز السابق، امثال دنيس روس، في مطالبة ياسر عرفات باجتراع المعجزات وهو مكتوف بالنار الاسرائيلية في رام الله كما هو معروف.

وفي وقت اضطر عرفات الى النزول الى الملجأ اتقاء للصواريخ التي انهالت على محيط مكتبه، بعدما كان شارون قد دمر مدرج المطار والحوامات التي يستخدمها في غزة، انهالت بعض التصريحات والبيانات الاميركية تطالبه تكرارا ويا لسخرية السياسات، بأن يبذل جهدا اكبر في اطار محاربة «الارهاب» ووقف العنف الفلسطيني.

ولكي تتضح معالم هذه «الخلاعة السياسية»، ربما احتجنا الى تذكر وقائع الايام الفعلية التي سبقت عمليات «الجهاد الاسلامي» في القدس يومي السبت والاحد من الاسبوع الماضي، بما ادى الى توسيع اطار العدوان الاسرائيلي بعد عودة شارون من واشنطن.

فمنذ الاعلان عن قرار سفر وليم بيرنز والجنرال انطوني زيني واهارون ميلر الى المنطقة، للبحث في وسائل ترجمة «الرؤية الأميركية» عبر وقف اطلاق النار من خلال تنفيذ «ورقة تينيت»، ثم المباشرة باستعادة اجواء الثقة المتبادلة من خلال تنفيذ «تقرير ميتشيل» توصلا الى استئناف المفاوضات، منذ ذلك الوقت سارع شارون الى تنفيذ خطة تصعيدية بهدف قطع الطريق على الوفد الاميركي، او على الاقل حصر مهماته بالسعي الى اطفاء الحريق الذي يكون قد طغى على الامور الاخرى.

وهكذا ذهب في الجريمة الى مداها الذي لا يحتمل عندما اغتال الجيش الاسرائيلي الطلاب الفلسطينيين الخمسة وهم يتوجهون الى مدرستهم، ثم اغتال محمود ابو هنود قيادي حركة حماس مع رفيقيه، كما اغتال اثنين من كوادر حركة فتح، واصاب اكثر من 20 فلسطينيا بجروح خطيرة بينهم خمسة طلاب آخرين، كل ذلك في اقل من 48 ساعة جرى توقيتها على خلفية احتساب فرضية خبيثة، اي ان يأتي الرد الفلسطيني متزامنا مع وصول بيرنز وزيني الى المنطقة يوم الاحد الماضي.

وهذا ما حصل تماما، فقبل ساعات من وصول الوفد حصلت عملية معبر «ارينز» الاستشهادية، وبعد ذلك بساعات حصلت عملية العفولة، ثم عملية الخضيرة، التي تعمد شارون ان يجعل زيني في مرمى التأثر بها، وقد كانا في الحوامة يراقبان امتداد «الخط الاخضر» بين الضفة الغربية واسرائيل، فحلّقا لمدة فوق مسرح الانفجار وراقبا معا عمليات اخلاء الجرحى.

طبعا لم تكن المفاجأة في كلام شمعون بيريز الذي سارع الى القول ان العمليات الفلسطينية هي «رسالة ترحيب ارهابية» بالوفد الاميركي، بل كانت في كلام زيني نفسه، الذي تعامى طبعا عن عمليات الاغتيال والتصفية التي حصلت عشية وصوله، ليقول ان المتشددين الفلسطينيين نفذوا عملياتهم في محاولة لافشال مهمته، ولكنه لن يدعهم ينجحون في ذلك، وقد جاء كلامه طبعا على خلفية المواقف الاميركية المعروفة، التي صنّفت حماس والجهاد الاسلامي حركات ارهابية، وعلى خلفية قول كولن باول ان الانتفاضة هي ايضا عمل ارهابي لن يؤدي الى نتيجة.

لا حاجة الى توسيع الوقائع. ذهب شارون الى اميركا وحصلت عملية القدس يوم السبت من الاسبوع الماضي وعملية حيفا يوم الاحد وقطع شارون زيارته بعد اجتماع عاجل مع بوش حصل في خلاله على «ضوء اخضر» للقيام بعدوانه الواسع الذي بدا واضحا انه يستهدف تدمير السلطة الفلسطينية توصلا الى اسقاط عرفات او الغائه! ومنذ يوم الاثنين الماضي حتى الآن تم رصد نوعين من القصف ضد عرفات ولكن على ايقاع متزامن تقريبا: القصف العسكري الصاروخي الذي وضع عرفات في الاقامة الجبرية النارية، والقصف السياسي الاميركي الذي نشأت عنه جوقة دولية تنتظم في اطار مطالبة الرئيس الفلسطيني بأن ينفذ المطلوب منه، ورغم انه كان بدأ حملة اعتقالات شملت 131 عنصرا من حماس والجهاد واعلن حالة الطوارئ، فإن المطالبات استمرت تنهال عليه داعية الى بذل 100 في المئة من الجهود، لا بل ان باول قال يوم الاربعاء: «اننا لم نلمس نتائج بعد» رغم اتساع حركة التوقيفات كما قلنا.

ولكي تكتمل معالم «الخلاعة السياسية» التي اشرنا اليها والتي تتجاوز الرقص علـى قبور الفلسطينيين، يتعين ان نتذكر كلام آري فليشر المتحدث بلسان البيت الابيض، الذي قال ان اسرائيل دولة ذات سيادة ومن حقها الدفاع عن نفسها، ثم استغبى العرب من المحيط الى الخليج وهو يعلن ان كلامه هذا لا يعني اعطاء الضوء الاخضر لشارون لتنفيذ عدوانه ضد عرفات والسلطة الفلسطينية.

لا حاجة الى الافاضة، لكن من الضروري القول ان سلاح الجو الاسرائيلي لم يدمر مدرج الحوامات في غزة ويضع عرفات امام استحقاقات خانقة تماما فحسب، بل دمّر ضمنا «الرؤية الاميركية» وهذا هو المطلوب اساسا في رؤية شارون... ولم يكن العدوان الصاروخي على الفلسطينيين وحدهم، بل على اهداف سياسية ضمنا، مثلا «اتفاق اوسلو» الذي كان اعتبره شارون جريمة يجب غسلها او خطأ كبيرا يجب تصحيحه، ومثلا «روح التسوية» في الشرق الاوسط، التي قال باول ان «الرؤية الأميركية» تهدف الى احيائها، حيث لا داعي الى التذكير بأن انهيار التسوية في فلسطين سيؤدي الى انهيارات حتمية في التسويات الاخرى الناجزة في المنطقة.

ولا ندري لماذا يصفق الاميركيون والبريطانيون وعدد آخر من الدول لشارون على هذه الجريمة المدوية، التي ينخرط فيها، وقد تؤدي في النهاية الى هدم السلطة الفلسطينية.

إذ ان السؤال الآن: اذا كان شارون يعتبر هذه السلطة مساندة «للارهاب» فكيف يمكن التفكير، مجرد التفكير، في امكان الوصول الى استئناف المفاوضات ولو بعد وقت طويل؟

ومن سيفاوض شارون اذا دمّر عرفات وسلطته، وهل صحيح انه «يمكن ايجاد بديل» من عرفات كما قال مسؤول كبير رافق شارون الى واشنطن، وكما اشارت الصحف الاسرائيلية عندما قالت ان هذا الموضوع كان مدار بحث في واشنطن؟ وبالتالي من سيكون هذا البديل، ان لم يكن ذلك الشخص الذي يوقع على قرار الانخراط في حرب اهلية بين الفلسطينيين؟

على ان السؤال الاهم: هل يرىد شارون ان يفاوض فعلا؟ وهل يقبل مجرد العودة الى طاولة المفاوضات، وهو لا يملك اي برنامج للتفاوض واي تصور للحل، باستثناء قرار تدمير اوسلو والتسوية مع الفلسطينيين؟ وهل يرتاح ضمنا اذا قام عرفات باعتقال كل عناصر حماس والجهاد كما حصل عام 1996، وخصوصا بعدما «وضع» الشيخ احمد ياسين في الاقامة الجبرية؟ هل يرتاح شارون، اذا نفذت كل هذه الامور وبات مطلوبا منه ان يستأنف المفاوضات؟

والسؤال الاستطرادي الاعمق: هل طرح الاميركيون على انفسهم هذه التساؤلات وهل حاولوا وضع اجوبة افتراضية عنها؟ وهل كان بيرنز وزيني يملكان فعلا «رؤية» تتجاوز وقائع المقارعات النارية، وتصل مثلا الى التساؤل عن المدخل مجرد المدخل، الذي يمكن ان يعيد شارون الى المفاوضات؟

لا داعي الى الاجوبة، لكن «الرؤية الأميركية» في كل سياسة اميركية متراخية ومنحازة، لا بل عمياء من هذا النوع، اصبحت من الماضي ماتت قبل ان تولد، مزقها شارون بينما واشنطن تطالب الضحية بأن توقف اعتداءها على الجلاد.

ومن لا يصدق عليه فقط ان يقرأ امر اليوم الاسرائيلي الجديد: هدنة الايام السبعة لم تعد شرطا كافيا لاستئناف الحوار مع السلطة الفلسطينية! ما هو المطلوب اذاً؟

المطلوب تنفيذ سبعة شروط (ربما في مقابل كل يوم شرط) وهي:

اولا: القيام بحملة اعتقالات حقيقية انطلاقا من لوائح اسرائيلية اسمية جاهزة.

ثانيا: اعلان حماس والجهاد الاسلامي حركتين ارهابيتين وحلهما نهائيا.

ثالثا: تجريد عناصر هاتين الحركتين من السلاح.

رابعا: جمع الاسلحة غير الشرعية والمتفق عليها حتى من السلطة الفلسطينية، وتسليمها وفق اتفاق «واي بلانتايشن» الى اميركا لتدميرها.

خامسا: القيام بالتعاون مع اسرائيل في عمليات وقائية حقيقية تمنع وقوع هجمات استشهادية.

سادسا: وقف التحريض على اسرائيل (هذا يعني انتقاء خطاب سياسي جديد يشمل المسؤولين وحتى اللغة الاعلامية وبرامج التدريس).

سابعا: احتفاظ الجيش الاسرائيلي بحق «المطاردة الساخنة» للعناصر المطلوبة داخل اراضي السلطة الفلسطينية.

ويبقى السؤال: اذا لم تشكل هذه الشروط السبعة، تشييعا ميدانيا لمأتم الرؤية الأميركية، فماذا تشكل؟!