سقوط المثقف.. في فخ الشعبي!

TT

مع الموجات التي تحدثها وتكررها مواقع التواصل الاجتماعي، تغيّرت صورة الرموز. إذ باتت فلتات اللسان تنبئ عن المكنون أكثر من النص المحكم، فتحذف تغريدات خوفا من المصير القانوني طبقا لنظام مكافحة الجرائم المعلوماتية. رموز كثر تغيروا من خلال هذه المواقع وتدويرها المخيف، ودمجها للعامة بالخاصة. ليس غريبا أن يندمج بعض الدعاة والوعاظ ونجوم الميديا والفن مع الجمهور، فهو مائدتهم وهدفهم وهو شرط لاستمرارهم، غير أن الأغرب تلاشي وانكشاف زيف أسماء ثقافية كانت لها صولات وجولات في معارك الحداثة في الثمانينات. يفتخرون بسقوط النخبة وبروز الشعبي، ويمارسون العملية التفاعلية بطرق الناشطين أو الحركيين، ولهم في كل حادثةٍ موقف، ويقتربون حد التملق من رموز الرجعية في أكثر من تصريحٍ ولقاء، لتتحول حالات التملّق تلك إلى حافزٍ على التنظير للرجعية من خلال محاضرات تنتقص من مفاهيم كبرى مؤثرة على تاريخ البشرية في عصرها الحديث.

فقد كثيرون صوابهم، حتى اعتبر مفكّر لبناني مثل علي حرب أن «الثورات العربية» أنتجت مفهوما جديدا هو «الناشط»، ليصل الأمر من بعدها إلى تصنيم وتضخيم شباب بسطاء لهم صفحات على الـ«فيسبوك»، توهموا أنهم من صنع الأحداث، ومن أسقط العروش، ومن حرّك الجيوش. وفي حوارٍ مع شاعرٍ لبناني يساري اعتبر «الدم» شرطا لصناعة الحرية، ويستهتر بالمثقفين الذين يقومون بحالات نقدية مجهرية للأحداث التي تجري أو الصيغ الحديثة التي تتشكل. عادت أحاديث إسقاط النخبة من خلال تجييش الثقافة الشعبية، وإعادة بعثها من جديد، ولا غرابة ضمن هذا السياق أن تجرى حوارات مع بعضهم في قنوات لا تخرج عن هذا الإطار.

هذا الطمس للدور النقدي المفروض على الكاتب أن يتخذه، والتشجيع على الهياج الجماهيري، ليس إلا محاولة لتدمير البنية الأساسية للمؤسسات المرتبطة بالواقع وتسييره، ذلك أن الجماهيرية ثقافة تدمير، والفردانية ثقافة بناء، وكل الأمم التي اعتمدت على الحشد الجماهيري آل بها المطاف إلى مجيء طغيان مضاعف.

سقط بعض المثقفين الخليجيين تحت وطأة المتطلبات الشعبية، واستخدم بعضهم شعارات عادية مثل: «هذا رأيي أعرضه ولا أفرضه»! وهي عبارة لا تقدم شيئا، لأن صيغ الفرض للرأي لا يمكن أن توجد إلا بسلطة وبقانون، غير أن نفي «الفرض» للرأي في موقع تفاعلي، إنما هو سقوط في مجال الشعارات، وربما في شرك القضايا والنشاط. كما أن الحديث من قبل المثقف عن أدائه للفروض الدينية، أو علاقته المميزة بالمشايخ، هو لغو لا مردود منه، ذلك أن كل المجتمع يمارس عباداته وطقوسه، ويحترم فقهاءه ورموز وطنه، فهذا التزيّد لم يكن ليتضخم في نفس المثقف وطرحه، لولا انزلاقه للجماهيرية المغرية التي تجعله مهووسا بذاته وبكل تفاصيل رأيه ويومه وعيشه.

من الواضح أن هذا البركان الضخم الذي أطلق حممه في مجال التعاطي الثقافي والفكري والسياسي، لم يغيّر المثقفين أو الناشطين إلى الأفضل، بل إلى الأسوأ. أدباء وكتاب وربما نقاد كبار كان يجب أن يحتفظوا بوقارهم وبصورتهم الأكاديمية العاقلة المتزنة المرتبطة بالمكتبة والمحاضرة وكتابة الورقة والإنجاز العلمي، بدلا من السقوط في فخاخ التنابز أو المحاججة الطويلة التي تنبئ عن تبذير للوقت في مثل تلك الوسائل. قد يحضر الكاتب أو الناقد فيها بغية ترويج المنتج المعرفي، غير أن كثيرين دخلوا بوصفهم أكاديميين منتجين وانزلق بهم «تويتر» ليكونوا ناشطين مدمنين على الحضور في جميع الأوقات.

تلك الموجة جعلت لكل شخصٍ منبرا، ولأن ثقافتنا منبرية وخطابية، فإن لكل شخص رأيا وخطةً، وربما برنامجا سياسيا، ففي داخل كل شخصٍ طموحُ زعيم، وهذا هو وجه الخطر.

* كاتب وباحث سعودي