جواهر من برنامج الابتعاث

TT

منذ توحيد المملكة وتأسيس الدولة السعودية الحديثة قبل ثمانين عاما، لم يحظ السعوديون بمشروع تنموي بضخامة وأهمية برنامج خادم الحرمين الشريفين لابتعاث الطلبة السعوديين للدراسة في الخارج. إنه الأضخم والأكفأ والأعمق أثرا على الإطلاق، ونقطة تحول جذرية في مفهوم بناء الإنسان السعودي.

إنما البرنامج مثل غيره من المشاريع التي تمس فكر الإنسان، يواجهه فريقان، الأول يتهافت عليه وأيما تهافت، بعض طلبة المراحل الابتدائية يدعون الله أن يستمر البرنامج حتى يبلغوا سن الابتعاث، يرون فيه حلما جميلا يدغدغ طموحاتهم. وأنا هنا أتحدث عن الأبناء وليست أماني الأهالي فحسب.

أما الفريق الآخر فهم قلة، متخوفون من وجود الشباب والشابات في بلاد الغربة الثقافية، خوفا عليهم من تغيير مفاهيمهم، وخوفا منهم أن يعودوا محملين بأفكار دخيلة على مجتمعهم. هؤلاء لا يخشون رحلة الابتعاث نفسها، بل ترعبهم كلمة واحدة وهي «المعرفة»، المعرفة هي العدو الأول للانغلاق والتخلف والتشدد.

إن برنامج الابتعاث يضم 150 ألف طالب وطالبة، وهناك منجزات ضخمة حققتها الفتاة السعودية تحديدا، فقصص نجاح المبتعثات السعوديات لا يمكن حصرها، تمطرنا بالفرح كل حين وآخر، أخبار تثلج الصدر وتشعرنا بالأمل، خذوا عندكم بعضا مما أذكره وأحفظه في مفضلتي على سبيل العرفان لهذا الرجل - الملك عبد الله - الذي قدم لبناته السعوديات فرصة العمر التي لا تضاهيها فرصة:

- تم انتخاب المبتعثة لدراسة القانون ريف حمد اليوسفي، سيناتورة للقانون في جامعة كولومبيا في نيويورك.

ـ حصدت سارة جزاء الدهاس العتيبي المركز الأول على دفعتها في درجة الماجستير في تخصص تكنولوجيا «الويب» من كلية علوم الحاسب من جامعة ساوث هامبتون في المملكة المتحدة، وكانت قبل ذلك قد نالت جائزة أفضل مشروع متميز من شركة مايكروسوفت العالمية في عام 2007.

- مشاعل صالح السلامة تحصل على جائزة أفضل طالبة بمرحلة الماجستير على مستوى الطلاب والطالبات بجامعة كوفنتري في المملكة المتحدة.

- نجلاء أحمد النعمي المبتعثة إلى جامعة أركانسا بالولايات المتحدة والمتخصصة في علم النانو، اختيرت من قبل المنظمة العالمية للتفوق والتميز على مستوى الكليات والجامعات الأميركية ضمن المتميزين والمتفوقين من الطلاب الدارسين بالولايات المتحدة.

- منحت جامعة تلسا بولاية أوكلاهوما الأميركية جائزة «آي إن موري» للتفوق الأكاديمي للطالبة السعودية مروة إبراهيم حسن آل إسماعيل، الحاصلة على بكالوريوس بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى في علوم الجيوفيزياء.

- أما المبتعثة إلى أستراليا هند ثلاب الجعيد، فقد نالت عضوية جمعية المفتاح الذهبي للشرف العالمي التي تمنح للطلبة المتفوقين في شتى المجالات الأكاديمية، بعد تفوقها في مجال اللغويات التطبيقية في جامعة (جريفث) الأسترالية، وإدراج اسمها ضمن قائمة الأوائل على مستوى الجامعة.

- وتتفوق الطالبة الدكتورة ريهام عيسى الحرتاني في جامعة كنغز كوليج بمدينة لندن بالمملكة المتحدة، وتحصل على درجة الماجستير في مجال طب أسنان الأطفال مع مرتبة الشرف الأولى، وتحقق المرتبة الأولى بين دفعتها من هذه الجامعة العالمية العريقة، فيتم تعيينها عضوا أساسيا في تجربة سريرية في مجال التخدير العام لمعالجة أسنان الأطفال، تحت رعاية المؤسسة الوطنية للصحة والأبحاث العلمية في المملكة المتحدة.

- وفي جامعة كنغز كوليج نفسها تمكنت الطبيبة سامية الشمولي المتخصصة في علم المناعة التشخيصي وأمراض الحساسية من اكتشاف الدور الفعال لمادة بروتينية في التئام الجروح الناجمة عن الأمراض المزمنة والسرطان، وتم تسجيل براءة الاكتشاف الطبي في الجمعية البريطانية لعلم المناعة (BSI).

- وكرمت كلية الهندسة بجامعة «غلاسكو كاليدونيان» البريطانية، المبتعثة السعودية ظبية أحمد الجاسم آل بوعينين، في حفل أفضل طالب بالكلية لعام 2013، كما حصلت على جائزة أفضل رسالة بحث لمشروع الماجستير بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف في الاتصالات والشبكات اللاسلكية.

ـ أيضا كرمت الوكالة الكندية للصحة، المبتعثة السعودية في هولندا سهام أبو زاهرة بعد تقديمها اختراعا يعرف بـ«الحساس الكيميائي» ومنحتها براءة الاختراع الذي يمثل ثورة علمية في الطب الحديث.

- وصممت فاطمة محمد الغامدي المبتعثة إلى جامعة أوكاد بكندا، برنامجا تعليميا لأطفال التوحد، وهو تطبيق مجاني على الأجهزة الذكية لتنمية بعض المهارات المعرفية، والوظيفية، ومهارات العناية بالذات لدى أطفال التوحد.

- وهاجر سعود العقيلي المبتعثة إلى جامعة كوينزلاند للتقنية في أستراليا التي حازت جائزة كلية التصميم الإبداعي، لتصميمها جهازا محمولا يتيح للمكفوفين القراءة بلغة برايل، وإمكانية الاستماع والحفظ والترجمة إلى عدة لغات، ونالت على أثر ذلك شهادة تقدير من الجامعة بعد منافسة قوية لأكثر من 60 طالبا وطالبة في معرض للمشاريع الطلابية أقيم مؤخرا في الجامعة.

ولا يفوتني أن أشير إلى ما قامت به سلمى علي آل سيف المبتعثة إلى نيوزيلندا، بتنظيم معرض للتعريف بالإسلام والقرآن الكريم ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، تحت شعار «ضوء من الشرق الأوسط».

قصص النجاح هذه لم تأت صدفة، ولا خلال حياة سهلة رغيدة من فوق ريش النعام، بل من كد ومجاهدة للنفس وتحد يكافئ حجم الآمال، وصرخة النجاح في النهايات السعيدة المنتظرة، ويعلم الله وحده كم من التضحيات قدمتها المبتعثات في سبيل الوصول لبلد الابتعاث والاستقرار على كراسي الدراسة.

يقصر الإعلام كثيرا في تغطية أخبار المبتعثات، لا يقدم للمجتمع حقيقة الأوضاع، التي مرت بها الطالبة السعودية للتكيف مع بيئة جديدة غريبة، بعد أن جاءتها من بيئة محافظة، رغم أنها تجارب جديرة بأن تسرد لأنها بمثابة دروس حياتية للعبرة. حتى بعض الأخبار التي تأتينا حول النجاحات المتميزة تشير لها وسائل الإعلام باختصار، من دون الإفصاح عن مراحل الكفاح التي خاضتها الطالبة للوصول إلى قمم لم تكن لتحلم بها لولا فرصة انضمامها للبرنامج.

برنامج الابتعاث يشابه عملية التنقيب عن النفط السعودي، التي بدأت في عشرينات القرن الماضي، لكنه هذه المرة تنقيب عن تلك الثروة التي تمنح الاستقرار الحقيقي والأمان الفعلي للمستقبل، إنها ثروة العقل الإنساني، الذي كلما اكتنز بالمعرفة العلمية زادت قيمته، وعلا شأن الأرض التي تحتضنه.

[email protected]